٤ آب: "رقمٌ يليه شهر"
٤ آب: "رقمٌ يليه شهر"
بعد عشر سنوات على فعلتها، حوكمت اليابان على واقعة نانجنغ، فقط لأنّها خسرت. وحوكم النازيّون على جرائمهم بعد الهزيمة أيضًا. منظومة النيترات انتصرت وهُزمنا نحن. لكنّ الإنتصارات والهزائم ليست دائمة. لا شيء دائم في التاريخ.
في ٤ آب، كانت المرّة الأولى نرى فيها، بأمّ عيوننا، غيمةً فطريّة، على هذا القدر من الحقد والسُمّيّة. أن تغمرك الغيمة تلك لا يشبه مشاهدتها على شاشة، مهما علت دقّة ألوانها وتقنيّات أجهزة الصوت المرافقة. بلحظةٍ سريعة، فهمنا كلّ شيءٍ عن تمدّد موجة الإنفجار الصدميّة بين الأزقّة والمنازل وعبر أجسادنا، وعن عِدائيّتها المميتة لفرح الأعراس ولعب الأطفال وكفاح العمّال والأمّهات والآباء. جريمةٌ سخّرت شفافيّة الزجاج في كراهيّة الحياة، وكشفت العطب والطبقيّة المستترين خلف تراث الواجهات وحداثة الأبراج فوق مسرحها، وعرّت، أيضًا، القاتل والقتيل من أقنعتهما في كابوسٍ أقصر من رمشة عين. بثوانٍ، فهمنا كلّ شيء، لكنّنا، وبعد مرور أربعة أعوامٍ، لم نستوعب شيئًا. لا عقل يستوعب، أصلًا، كيف مرّ ثالث أقسى تفجير في التاريخ كأنّه حفلة مفرقعات.
"جريمة اللامبالاة"
يُحكى أنّ الأقرب إلى جريمة تفجير مرفأ بيروت، من حيث القوّة، هو جريمة هيروشيما النوويّة. أنهت الأخيرة حربًا كونيّة، ومعها، حقد الكولونياليّة اليابانيّة، وما زالت تردّداتها، منذ تسعة وسبعين عامٍ، تلفّ العالم حتّى يومنا هذا، فيما لم تنه الأولى حرب نظام النيترات وحقده على اللبنانيّين، وخَفَتَ تردّدها فور كناسة الزجاج. تغيّر الكوكب السياسيّ والعسكريّ والإجتماعيّ والإقتصاديّ والصناعيّ، جذريًّا، بعد جحيم هيروشيما. دخل العالم في عصرِ ما بعد الحرب (post-war era). وبعد قنبلة النيترات، في لبنان، لم تتغيّر عادةٌ واحدة. شيءٌ وحيدٌ أعلن رئيس البلد، حينها وبحضور نظيره القرنسيّ، عن نهايته: عزلة حكم النيترات نفسه. يُفصح شرود الذهن هذا عن أولويّات أهل الحكم أجمعين: الإستمرار في الحكم. ندم المجرم على فعلته، في عينَيّ الأخلاق والقانون، هو سببٌ تخفيفيّ، وفي لامبالاته جُرمًا إضافيًّا يزيد في ثقل العقاب.
"عصر ما بعد تفجير ٤ آب"
ليس في عالم من ألقوا قنبلة النيترات على بيروت أيّ حسابٍ لعصر ما بعد ٤ آب أو اضطرابات ما بعد الصدمة، على غرار ما حصل للطيّارين الذين ألقوا نووي الإبادة على هيروشيما وناغازاكي. هم لم يُصدَموا في الأساس. حتّى إعانة ضحاياهم ورفع الأنقاض وإقفال النوافذ والأبواب المخلّعة ليست على أجنداتهم الرسميّة أو الأخلاقيّة. كلّ ما انهمكوا بفعله هو إعادة الرتابة والروتين إلى مسرح الجريمة. ليست معالم الجريمة ما يريدون محوه كما نقول نحن المسحوقون. فمن هو فوق الحساب لا يقيم لإخفاء معالم جريمته حسابًا. ومن يصفِد يديّ القاضي لا يهاب تصفيد يديه. مسرح جريمة الحرب الأهليّة انتهى واحة لمطوّري العقار، لا أكثر ولا أقلّ. إعادة الإعمار، في لبنان، يرافقها بؤس الفقراء وطردهم عن مساحاتها، ومرفأ بيروت ليس اسثناءً. عصر ما بعد الإنفجار هو عصر استحواذ المساحة وأثمانها. الشاهد الصامد والصامت، كما نُسمّيه نحن الضعفاء، سيبقى صامتًا حتّى انكفاء صموده. هم لا يكرهونه لشهادته على جريمتهم، بل لاحتلاله مسقطًا على مساحةٍ قد تدرّ عليهم ذهبًا، أو ربّما لأنّه حمى جزءًا من المدينة التي يكرهون. فالمجرم يكره من يخفّفون في حدّة سكّينه عن رقبة الضحيّة.
"رقمٌ يليه شهر"
حتّى اللغة والمفردات شاركت في تسطيح الأحداث المؤلمة في لبنان. من ١٣ نيسان إلى ٤ آب ومرورًا بـ ١٤ شباط و٧ أيّار. رقمٌ يليه شهر. حلقاتٌ متتالية من مسلسل آلامٍ بلا عقاب. عقابٌ للضحايا فقط. لم يُحاسب أحد على جريمة صَهر هيروشيما ولم يُحاكم أحد على إحراق دريسدن. فالمنتصر لا يُحاسب قبل هزيمته. بعد عشر سنوات على فعلتها، حوكمت اليابان على واقعة نانجنغ، فقط لأنّها خسرت. وحوكم النازيّون على جرائمهم بعد الهزيمة أيضًا. منظومة النيترات انتصرت وهُزمنا نحن. لكنّ الإنتصارات والهزائم ليست دائمة. لا شيء دائم في التاريخ. غدًا، قد تأتي، في مسلسل الجريمة اللبنانيّ، حلقةٌ أخيرةٌ لا يكون الأشرار أبطالها. وفي أحداثها، ينتقل أحدهم من رأس لجنة العدل إلى قعر زنزانة العدالة، وآخرون من رخاء الحكم إلى عناء المحاكمة. حلقةٌ قد يكون عنوانها، هي أيضًا، رقمًا يليه شهر. حلقةٌ قد تقترب من الكمال إن كان الرقم هو أربعة والشهر هو آب.