لبنان على حبل مشدود بين الحياد وعواصف المحاور

لبنان على حبل مشدود بين الحياد وعواصف المحاور

  • ٢٤ أيلول ٢٠٢٤
  • إلياس معلوف

هل الاستسلام للتدويل والعواصف والأهواء الدولية والإقليمية التي لا تنتهي هو المطلوب ، أم الإتجاه الى خيارات ضامنة للإستقرار ولتعزيز القدرات الوطنية والإزدهار.

المطلوب أن نحيد لبنان بنظام مضمون دولياً عن العواصف والأهواء والمطامح والمطامع أما كيف؟ ففي العالم البعيد نماذج يمكن أن نستلهم إختباراتها في صياغة أنظمتها ، من سويسرا أو سواها في اوروبا الى دول في أمريكا اللاتينية ، وصولاً الى دول آسيوية محاطة مثلنا بذوي المطامح والأطماع وتصدهم بالتحييد وضماناته الأممية.

وهذا يفترض سياسة وطنية متكاملة لا تعتبر أنّ «قوة لبنان في ضعفه» بل تبحث للبنان عن قوة بديلة في السياسة الخارجية كما الدفاعية قوامها حيادي يوفر لنفسه عناصر تضمن إحترامه وحمايته إيجابياً.. بحسب عميد الصحافة: غسان تويني.

إنّ الحيادية هي مذهب فكري يمثل الإتجاهات الفكرية للأفراد والجماعات التي لا تنحاز الى أي جانب كعدم الإنحياز الى حزب سياسي معين خارج السيادة الوطنية ويشير كذلك الى السياسة الخارجية للدول التي تقضي بعدم الانحياز في الصراع بين الدول الأخرى.

ويدخل في موضوع  الحياد سياسة الدولة المحايدة والتي تقضي: 
اما بقبول مبادئ وسط بين مبادئ القوى المتصارعة واما الرفض الكامل لمبادئ الطرفين المتنازعين.

 ومن المبادئ التي تقوم عليها الحيادية:
- رفض الانضمام الى الاتفاقات العسكرية
-رفض قبول أسلحة أو مساعدات عسكرية من طرفين متخاصمين
 -عدم منح قواعد عسكرية لأي منهما 
-عدم الإلتزام بمعاهده مع أي منهما
-عدم الإلتزام بأيديولوجية أي منهما

هذا عن مذهب الحياد في المطلق فماذا عن انواع الحياد المعروفة حتى الان؟
-الحياد الواقعي : وهو يتناول الدول التي لم تشترك فعلياً في الحرب ومع ذلك فهي تعلن الحرب على أحد المتخاصمين. فهي من الناحية القانونية في حال حرب ولكنها من الناحية الفعلية في وضع الحياد. وهذا ما كانت عليه حال دول كثيرة ومنها لبنان خلال الحرب العالمية الثانية حين أعلنت الحرب على المحور شكلياً عام 1945 كي يتسنى لها الاشتراك في توقيع ميثاق الامم المتحدة.

-الحياد الودي : يعطي الدولة المحايدة الحق في تجهيز جيوشها وتحصين حدودها، واتخاذ كل التدابير العسكرية وسواها التي تمكن هذه الدولة من الدفاع عن نفسها في وجه أي قوه أو دولة تحاول خرق حيادها.

-الحياد الدائم: يتوجب على الدولة ذات الحياد الدائم مثل سويسرا عدم الانحياز الى أي من الدول المتحاربة والإمتناع عن إعلان حرب هجومية أو الإشتراك فيها مع الحفاظ بحق الدفاع الشرعي في حال تعرضها للإعتداء.
-الحياد الودي: هو الحياد الذي يحترم مشاعر شعب الدولة الحيادية وتعاطفه مع أحد المتحاربين.

-الحياد الخاص: يتناول الحياد العام الدولة كاملة أو بعض أقاليمها وكل سكانها أو قسماً منهم فإنّ الحياد الخاص يتناول بعض المناطق المحددة وبعض الاشخاص وبعض الأبنية.

هذه هي باختصار بعض مفاهيم الحياد وانواعه حسب ما هو معروف في القانون الدولي العام، و في ضوئها يمكن النظر في نوع الحياد الذي هو الانسب للوضع اللبناني.

حياد لبنان السياسي

فماذا عن الحياد اللبناني السياسي بمعنى عدم الانحياز في سياسته الخارجية؟

فكره الحياد اللبناني بمعناه السياسي ترتبط بفكره الإستقلال بالذات. فقد كان لبنان بفعل تركيبته السوسيولوجية - الدينية مشدوداً الى اتجاهين:

-إتجاه نحو الغرب المسيحي ممثلا بالانتداب الفرنسي
 -إتجاه نحو الشرق العربي ممثلا بسوريا في شكل عام

 وحتى من ضمن هذين الإتجاهين كان هناك مأزق المحاور:
- غربياً كان هناك محورا فرنسا وبريطانيا قبل أن تصبح الولايات المتحده المحور الرئيسي 
-عربياً كان هناك المحور المصري والمحور الهاشمي والمحور السعودي. 

مع الاخذ بعين الإعتبار التبدلات والتطورات التي طرأت على هذه المحاور وعلى مدى أهميتها العربية وبالتالي إنعكاسها على الوضع اللبناني.

 وبين المعاهدة التي كانت تطالب بها فرنسا لمنحها إمتيازات في لبنان وبين المطالبة بالوحدة مع سوريا، ولد الميثاق الوطني الذي أرسى القواعد الكبرى لسياسة لبنان الخارجيه وموقفه العربي والدولي.
 وهي سياسة الحياد، وقد ظلت هذه السياسة متبعة في كل العهود الإستقلالية منذ عهد بشارة الخوري حتى اليوم.

حياد لبنان القانوني والدائم كما طرحه الرئيس شارل حلو
1958

واجه حياد لبنان السياسي التقليدي إختبارا صعباً، بل الإختبار الأصعب بعد الإستقلال خلال الخمسينات. فقد شهدت هذه الفترة ما عرف «بالثورة العقائدية في الشرق الأوسط». 
وكان على رأس التيارات السياسية التي اجتاحت المنطقة الحركة الناصرية التي توجت مدها بقيام الوحدة بين مصر وسوريا.
 وكان طبيعيا أن تنعكس هذه الحركة على الوضع اللبناني، مما أدى الى أحداث العام 1958.
 ومن قلب الأحداث أطلق المفكر السياسي الرائد الرئيس شارل حلو دعوته الى ”«حياد لبناني قانوني ودائم».

تطورت فكره حياد لبنان ومرت بثلاث مراحل أساسية:
- مفهوم الحياد السياسي في الصراعات الإقليمية والدولية. وهو الحياد الذي تبنته الدولة اللبنانية بعد الاستقلال. بمعنى عدم الانحياز الى أي دولة أجنبية وعدم التمييز بين دولة وأخرى من حيث السياسة الخارجية.
 فهذا النوع من الحياد ليس حياداً ايديولوجياً بمعنى، أو أنّه حكم على سياسة ما بأنّها خير وعلى أخرى بأنّها شرّ.
 وهو ليس حياداً طموحاً، بمعنى أنّه مساهمة في حلّ مشاكل العالم عن طريق السياسة الحيادية.
 وهو ليس حيادياً قانونياً ولكنه حياد عملي واقعي... هو نفض يد وعدم حرق الأصابع بنار الخصومات والمشاكل الدولية.
 كان هذا النوع من الحياد السياسي معقولاً ومقبولاً خلال الاربعينات. ولكن مع قيام إسرائيل وتجذّر الخلافات العربية وبروز التيارات الأيديولوجية في داخل العالم العربي وبين الأنظمة العربية، أصبح هذا المفهوم السياسي للحياد شيئا من مخلفات الماضي. وأصبح لبنان أمام خيارين:
 -إمّا الإنخراط في قلب الصراعات الأيديولوجية داخل العالم العربي، مع ما يمكن أن تحمله هذه الصراعات من ردود فعل على الواقع اللبناني.
 -وإما التفتيش عن مفهوم آخر للحياد يقوم على أسس قانونية و حقوقية مناسبة. 

ثوابت الحياد:

الكثيرون من اللبنانيين، ملتزمين كانوا أم مستقلين، يرون في فكرة الحياد أمراً جيداً ومفيدًا بل أمنية، ولكنهم يعتبرونها حلاً مثالياً وصعباً ليست هناك في الوقت الحاضر إمكانات متوافرة لوضعها موضع التنفيذ.
 فالولايات المتحدة لن تقبل بحياد لبنان بل تريده منطقة نفود لها ولسياستها وربما لاستراتيجيتها العسكرية في المنطقة .
وسوريا ترفض الحياد الذي يعزل لبنان عن «أمته العربية» ويجعله جسماً غربياً في محيطه العربي.
 وإسرائيل ترفض الحياد الذي يضعف من نفوذها داخل التركيبة اللبنانية وبالتالي يضعف من استراتيجيتها في المنطقة التي يعتبر لبنان بحقّ المدخل الصحيح لتنفيذها.

وكل هذه العوامل هي بمثابة عوائق في طريق تبني مشروع الحياد، وبالتالي لا فائدة من الدفاع عن هذا المشروع ما دامت الظروف غير متوافرة لانجاحه ما دام الإجماع غير مؤمن له.
إنّ هذا المنطق المتداول على ألسنة الكثيرين حتى من الذين يؤمنون بمبدأ الحياد هو منطق خاطئ وخطير:
 أولا، إنّ حلاً معيناً أما أنّه حل صحيح بذاته أو أنّه حل خاطئ ومن المفروض في الجهات المبدئية العقائدية أن تدافع عن مبدأ معين تراه صحيحا حتى وإن لم يلاقِ في الوقت الراهن القبول والاجماع.
 ثانيا، إنّ القوى التي تعارض تحييد لبنان هي بالضبط القوى التي لا مصلحة لها في إيجاد حل جذري وصحيح للقضية اللبنانية. وبالتالي إنّ الموقف اللبناني الصحيح هو موقف الدفاع عن هذا الحل في وجه هذه القوى جميعا.



الثوابت الجغرافية
ثلاثة أمور تميز الواقع الجغرافي اللبناني:
- الساحل الفينيقي وظهيره وحدتان طبيعيتان تتميزان عن جيرانها تميزاً تاما: سهل ساحل ضيق من خلفه سلسلتان من الجبال تفصلانه عن الصحراء وبقيه العالم السامي من ناحيه الشرق. أما من الجنوب، فإنّ فتحة ازدرايلون (مرج ابن عامر ) ونتوء جبل الكرمل يفصلانه تماما عن فلسطين. وأما من الشمال فإنّ مشارف جبال طوروس تفصله عن آسيا الصغرى. 
- من الوجهة الطبوغرافية يلاحظ في التضاريس اللبنانية وجود سلاسل من المرتفعات التي تتجه من الشمال الى الجنوب وتكاد تعزل الساحل اللبناني الضيق عن ظهيره وتوجهه توجيها نحو البحر.
- كانت الاخشاب تشكل ثروة لبنان الطبيعية في الزمن القديم بسبب أهمية الخشب في البناء البحري والعمراني. هذه الثورة افسحت للبنانيين مجال استعمال البحار والاتصال بالآخرين ولكنها في الوقت عينه وبسبب الغابات الكثيفة في الجبال الوعرة كانت عائقا طبيعيا دون هيمنة الآخرين على هذه الجبال. واليوم بعد قله الخشب يعتبر لبنان من البلدان الفقيرة في موادها الأولية المعدنية وبالتالي هو لا يشكل، بسبب جغرافيته، هدفا لمصالح القوى الدولية من هذه الناحية وبالتالي هو لا يشارك في هذه المصالح.

الثوابت التاريخية
بعد الثوابت الجغرافية هناك الثوابت التاريخية التي تتصل بها إتصالاً وثيقاً. إنّها تتناول وضعية الشعب الذي يشكل الدولة الحيادية و نوعية العلاقة التي قامت بين أفراده عبر التاريخ.
 ولقد صار واضحا أنّ شعب الدولة الحيادية هو في تركيبه شعب غير متجانس لأنّه يرجع الى أصول إتينية ومذهبيه مختلفة.
 فهو شعب تعدّدي سواء في ينابيعه السلالية أو في إنتهاءاته الأيديولوجية اللاهوتية الحضارية. 

الثوابت الاقتصادية
إنّ الفقر الاقتصادي لدى دوله ما ينتج عنه طرحان:
- طرح الاندماج مع محيط أوسع لتامين المستلزمات الاقتصادية وهو طرح سهل من الوجهة النظرية الأيديولوجية وله مبرراته التي يمكن الدفاع عنها.
 - طرح الحياد كعامل من عوامل التعويض عن الفقر الاقتصادي بتأمين دائم للمستلزمات الإقتصادية للدولة من كل الأطراف وفي كل الظروف بما فيها ظروف الحرب ذاتها. 

الثوابت السياسية
أمام كل دولة صغيرة خيارات في سياستها:
-أما إعتماد سياسة المشاركة الفعالة في النشاط الدولي عبر المساهمة في حل المشاكل الدولية، وبالتالي إقامة علاقات سياسية وربما عسكرية معينة مع بعض القوى الدولية.
-أما إعتماد سياسة الإعتكاف وبالتالي الحياد والبقاء في منأى عن صراع التيارات السياسية الدولية بهدف الحفاظ على حد أعلى من التضامن الداخلي والرضى 
الخارجي.

 ولقد ثبت بالتجربة أنّ الحياد هو أكثر مردوداً على الدول الصغيرة باعتبار أنّ هذا الحياد كما يقول «بورغو» هو الشرط الجوهري للوحدة الداخلية للبلاد وهو الضامن الأساسي لاستقلالها عن كل نفوذ خارجي.

 في ضوء هذه الثوابت الجغرافية والتاريخية والإقتصادية والدينية الإجتماعية والسياسية يمكن القول بل التأكيد أنّها متوافرة في لبنان كي تشكل القاعدة العريضة الثابتة لحياده.