المقاومة وطَبق السمك واللبن

المقاومة وطَبق السمك واللبن

  • ٢٤ أيلول ٢٠٢٤
  • جورج طوق

مَن رُفعت لهم التحيّة يستعدون للتفاوض، ومَن عليهم رُفع الإصبع… يستعدّون للتضامن.

مَن لذاكرتهم امتدادٌ على القرن الماضي، يعرفون، تمامًا، جدّية المقولة اللبنانيّة «لَبنٌ وسمك». رغم غياب مسندٍ علميّ لها، إلّا أنّ خرافة سُمّية الخلطة، تلك، أُخذت، لفترةٍ مديدة، على مَحمل الجِدّ في لبنان. تلاشت هيبة مزيج المُكوّنين الغذائيَين في التسعينات، وشهدت أواخرها أول اللقاءات بينهما، في لفافة خُبزٍ، أو طبقٍ واحدٍ مثل «فتّة السمك». هجرت المقولة حرفيّتها، وأُحيلت إلى التراث الشعبيّ، ولم يبقَ منها إلّا مجازيّتها. فالخلاصات المجازيّة للتجارب المجتمعيّة أبقى من حرفيّتها. التراث الشعبيّ والتاريخ يُجمعان على سمّيّة خلط سمك السُلطة، في طبقٍ واحد، بلبن الأفعال المقاوِمة.

«ولادة فتّة السُلطة»
ما إن بردت آخر فوّهات الموت، في حرب تمّوز ٢٠٠٦، حتّى دخلت «فتّة السُلطة» إلى مائدة المقاومة الإسلاميّة في لبنان. كانت عبارة «سنتدخّل في كلّ شاردةٍ وواردة»، في خطاب النصر، بمثابة شهادة ميلادٍ للطبَق المسموم. لم يمضِ طويلًا، على صبّ لبن المقاومة فوق سمك السُلطة، حتى أحكم الحزب قبضته على الحكم، وباتت «فتّة السُلطة» طبقه المفضّل. وعوارض السميّة، أيضًا، لم يتأخّر ظهورها.

«رداء المقاومة المفقود»
المقاومة، في الجوهر، هي رداء التمويه الواقي لنضال مضطّهدين في وجه ظالمٍ رسميّ غازٍ أو محلّيّ، لا يسمح ميزان القوّة بنزاله فوق الحلبة. فالمنازلة، بين كيانَين رسميّين، هي، أصلًا، حربٌ لا مقاومة. يُبطل ابتلاع المقاوم لرسميّة السُلطة تمويه الرداء، ويسلبه عناصر الخفّة والمباغتة في وجه كلاسيكيّة قوى الظلم، فينزع عنه طابعه المقاوم، ويعيد الفيصل إلى رحمة ميزان القوة. الحُكم لا يلائم يوميّات المقاوم. يُحكى أنّ سبارتاكوس خسر تعويذة إذلال كبرياء فيالق الرومان، يوم قرّر الزحف نحو مركز الحكم في روما. فالزُهد بالسُلطة هو إكسير المقاومين، والتوق إليها هو حتفهم.

«بصمات أيدي الحُكم»
في منطق التاريخ، تتمتّع الحركات المقاوِمة بجاذبيّة شعبيّة هائلة، فيما لا يجذب الحُكم، لمتبوّئيه، إلى جانب دوّامة الحُظوة والإفساد، غير بلادة الحركة والنقمة والعتب والتشكيك والعداءات. فمع خلط السمك واللبن، ليس خفيًّا ما فقده الحزب المقاوم من جاذبيّة، ولا ما حصده من نقمةٍ وعداءات. والأخطر، في مستنقع الحُكم، هو الكمّ الهائل من البصمات والدلائل التي يطبعها المقاوم يُمنةً ويسرة. ففي يوميّات السيطرة على إدارة الوزارات والدوائر والجامعات والأمن ومنصّات الإعلام والصيرفة والتحويلات ووكالات التجارة وأسواق السيّارات والمواد والهواتف وبوّابات المواقف والمناطق والمعابر والمرافئ والمطارات بحرٌ من المكالمات الهاتفيّة والمراسلات البريديّة والرسائل الإلكترونيّة والمعاملات الورقيّة والزيارات واللقاءات والرحلات والتأشيرات والسجّلات، تحت أعين قاتلٍ متسلسلٍ مترصّدٍ لا يغفله نفسٌ ولا بصمة. لم يحصل أن فرّط مقاومٌ بتفرّغه وتكتّمه إلّا وأمسى صيدًا سائغًا.

«يا مبَدّل إبنك بقرود»
في حرب تمّوز، ساهم الإحتضان الوطنيّ، رغم تواضع إمكاناته، في بلسمة شيءٍ من المعاناة، كما نجحت سمكة السُلطة، رغم ضيق بُركتها، في صياغة القليل من الدبلوماسيّة المفيدة. مناورةٌ أبطلتها سميّة طبق السمك واللبن عند ابتلاع الحزب كامل هيكل الحُكم في لبنان. لم تصُن مكابرة المقاومة، من الدبلوماسيّة، مثقال ذرّة، ولم تترك، من بين مواطنيها، لها صاحبًا ولم تحفظ خطًّا واحدًا للرجعة. اليوم، وفي ضيق عنق الزجاجة التي حشرتنا مكابرتها فيها، أولئك، مَن رُفعت لهم التحيّة، يستعدون للتفاوض، ومَن عليهم رُفع الإصبع… يستعدّون للتضامن. وهنا، تحضر مجازيّةَ مقولةٍ لبنانيّة أُخرى. «يا مبَدّل إبنك بقرود».