الحرب خدعة

الحرب خدعة

  • ٠٤ تشرين الثاني ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

الفرق هذه المرة أنّ إسرائيل تعلمت من الحرب الماضية، وأقلمت خدعها مع الواقع الجديد، بينما الحزب كابر في «نصر عام 2006»، وتعامى عن أنّ الحرب يوم لك ويوم عليك



حزب الله لم يخدع إسرائيل عام 2024، بل خدع نفسه بنفسه، كما خدع جمهوره. في المقابل حقّق نتنياهو تقدماً مهماً يمكنه التفاخر به أمام شعبه، في الوقت الذي كان الإعلام يتكلم عن إمكانية وقف لإطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، كان نتنياهو يؤكد على نفس الموقف في الأمم المتحدة، ليعود بعد ساعات ويغتال جيشه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. الخدعة التي نفذها نتنياهو في 27 أيلول، سبقها ولحقها خدع أخرى. لا عجب من ذلك، فالحرب في النهاية ليست إلا مجموعة خدعٍ تُمارس من قِبل جيش على آخر، أو كما يصفها المحللون الاستراتيجيون هذه الأيام ب «التكتيك» وبجملة كلمات أكاديمية معقدة وكثيفة. خدعة أخرى مارسها نتنياهو الأسبوع الماضي، عندما سرّب الإعلام الغربي الموالي لإسرائيل أخباراً طازجة عن قرب التوصل الى تسوية ووقف لإطلاق النار،تزامنت مع زيارة مبعوثين أميركيين الى تل أبيب.كُشفت الخدعة سريعاً بعدما انتهت «الأجواء الإيجابية» بخطاب لنتنياهو  نفسه أكد فيه على «أنّ الحرب مستمرة الى حين تحقيق الأهداف» 

كذلك الأمر، خداع أو تكتيك إسرائيل في الميدان مستمر وبقوة. إنزال البترون الذي انتهى بخطف قيادي في «حزب الله» هو خدعة، وكذلك الأسلوب المعتمد من الجيش الإسرائيلي في الميدان جنوب لبنان. تعلّم ذاك الجيش جدياً من «حرب تموز» عام 2006، فبدلاً من أن يدخل بدباباته وآلياته بشكل بطيء، ويتعرض لشتى أنواع القذائف المضادة للدروع، فيخسر عشرات القتلى يومياً، راح الجيش الإسرائيلي يمارس الحرب البرية بشكل مختلف؛ يدخل سيراً على الأقدام إلى قرية بعد أن يُنهي وجود عناصر «حزب الله» فيها، يلغمها، يفجرها، ثم يخرج سريعاً منها، فلا يدفع عناصره للتمركز في مكان ما وإطلاق النار عليهم، ثم يعود ويعيد الكرة في قرية أخرى. حركية عناصر الجيش الإسرائيلي، كما التغطية الجوية، هي التي تؤمن له عدم سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، كما تفوقاً ميدانياً واضحاً.

ليس لإسرائيل إلا عدو واحد يمكنه منعها من الاستمرار في التقدم البري وتدمير القرى. هذا العدو ليس بأس وجبروت مقاتلي «حزب الله» الضعفاء في الميدان، ولا هو الدبلوماسية الأميركية التي قد تمنع إسرائيل من التمادي، إنّما مدنيو إسرائيل بذاتهم. هؤلاء هم «العدو» الوحيد لنتنياهو، بحال زاد عدد قتلى جيشه، فتزيد النقمة الداخلية، وربما المظاهرات، وبالتالي يُجبرون رئيس الحكومة على وقف الحرب في لبنان. لا عدو لنتنياهو سوى شعبه، ولكن ليس اليوم، حيث لا تزال نسبة التأييد للحرب على «حزب الله» مرتفعة في الداخل الإسرائيلي، وخاصة بين سكان شمال إسرائيل.

في مقابل خدع نتنياهو الكثيرة، لم يُنفذ «حزب الله» شيئاً من الخدع التي وعد بها نصرالله. بالمقارنة مع عام 2006، خدع الحزب الجيش الإسرائيلي وضرب له بارجة حربية، كما فتك بدباباته في منطقة «وادي الحجير» جنوباً. الفرق هذه المرة أنّ إسرائيل تعلمت من الحرب الماضية، وأقلمت خدعها مع الواقع الجديد، بينما الحزب كابر في «نصر عام 2006»، وتعامى عن أنّ الحرب يوم لك ويوم عليك.

«حزب الله» لم يخدع إسرائيل عام 2024، بل خدع نفسه بنفسه، كما خدع جمهوره. خُرق أمنياً واستخباراتياً، ولم يستطِع حماية أغلب قيادييه. ظنّ الحزب أنّ قتال إسرائيل الجدي ممكن ونصف قواته المقاتلة في سوريا والعراق واليمن. تعامى عن الحقائق ولم يطوّر آلته الحربية لتماشي التطور التكنولوجي الإسرائيلي.
حتى على جمهوره، مارس الحزب خدعة، أكان عن قصد أم دون قصد. أقنع الحزب جمهوره بأوهام الإنتصارات وفائض القوة. وعدهم بالنصر الدائم وبالقدرة العسكرية غير المتناهية. أرفدهم بعبارات الفوز ومشاعر التفوّق على الإسرائيلي كما على أقرانهم اللبنانيين. إنتهى أمر جمهور الحزب بالإستعلاء على بقية اللبنانيين وعدم تقدير مدى التفوّق الإسرائيلي، فيما كانت الصدمة الحقيقية عندما بدأت الآلة الحربية الإسرائيلية بالفتك بالحزب، أكان عبر تدمير مخازنه أم قراه أم إغتيال وخطف أغلب وأرفع مسؤوليه.

كثرة الخداع الذي تعرض له جمهور الحزب قد يفسر لماذا لم يقتنع بعضهم بالهزيمة والضعف بعد، ولماذا لم يقتنع عدد منهم بأن نصرالله قد قتلته إسرائيل. كثرة الأوهام التي عاشها هذا الجمهور على مدى عقد ونصف من الزمن، ما هي إلا غشاء يعمي العيون والقلوب والعقول عن رؤية الحقائق الميدانية والسياسية والعسكرية على ما هي عليه.

نتنياهو المخادع تأقلم مع الوقائع الجديدة وأبلى بلاءً حسناً، أقله إلى الآن، في حربه مع «حزب الله»، خدعه أكثر من مرة وحقق نتائج يمكنه التفاخر بها أمام شعبه. أما الحزب فلم يحقق الكثير في الميدان، ولم يستطِع لا حماية لبنان، ولا حماية الجنوب، ولا حتى حماية نفسه. إنطلت خدع نتنياهو على الحزب، فيما الحزب يلملم ما تبقى له من قدرة الآن، ويعدُ الناس بالعودة إلى قراهم؛ مجرد خدعة جديدة غير ممكنة على المدى المنظور، فيما نصف جمهوره بات في العراق وسوريا أو في مدارس الدولة ينتظر أعجوبة ميدانية أو وقفاً لإطلاق النار لا يبدو ممكناً في الوقت الحالي.