إحتضار سردية محمد عفيف
إحتضار سردية محمد عفيف
السرديات الإعلامية الموجهة لم توقف قضم الأراضي والإغتيالات والدمار
ماذا سيذكر التاريخ عن محمد عفيف، الناطق الإعلامي الأخير لـ«حزب الله» الذي اغتالته إسرائيل يوم أمس؟ سيذكر أنّه برز في الفترة الأخيرة مدافعاً شرساً عن سردية حزبه، بعد سنوات طويلة من الركون في زاوية الأحداث وفي ظلال حسن نصرالله، مثل أغلب مسؤولي الحزب الآخرين.
قتلت إسرائيل عفيف في منطقة رأس النبع البيروتية بالأمس، وبررت فعلتها بأنّ للرجل دوراً عسكرياً كذلك. هذه عادة الدول العسكرية الخبيثة، التي تبرّر قتل كل مدني بالقول إنّ له دوراً عسكرياً، فتحمي نفسها من أي عواقب أو ملاحقة، وتطوي سريعاً الصفحة عن من غاب، وتتحضر لقتل غيره.
مع موت وجهها الإعلامي الرسمي الوحيد الظاهر للعلن، يفقد «حزب الله» شيئاً آخر غير شخص عفيف بذاته، وهو تضعضع السردية التي قدمها الرجل، ومن قبله مسؤولو الحزب الآخرون، في مقاربة العداء لإسرائيل والحرب ومبررات بقاء الحزب بسلاحه الثقيل.
في معرض تبرير الحرب، تقول سردية «حزب الله» إنّ إسرائيل كانت ستشن حرباً على لبنان والحزب حتى ولو لم «يتحركش» هذا الأخير بها ويقرر «إسناد غزة». غاب عن عفيف ورفاقه أنّ إسرائيل لم تجتاح لبنان عام 1978 وعام 1982 إلا لأنّ المنظمات الفلسطينية إعتدت عليها من لبنان، وأنّ «حرب تموز» عام 2006 ما كانت لتقع لولا قيام الحزب بخطف جنود إسرائيليين. إسرائيل عدائية حين تريد ومندفعة عسكرياً للقتال، وهذا مبرر بقائها، لكنها ما كانت لتمطر لبنان بالصواريخ لولا تدخّل الحزب وهجومه عليها أولاً. ليس ما سبق تبريراً لأعمال إسرائيل، ولكن سرد التاريخ وأحداثه يدل على أنّ إسرائيل كانت، في غالب الأحيان، في موقع ردة الفعل مع لبنان والحزب وغيرهما من الدول المجاورة.
سردية أخرى أصّلها عفيف في مطالعاته الإعلامية الأخيرة، وكانت حول «نظرية الإنتصار». ربما يعيش أنصار الحزب في عالم موازٍ لا يشبه عالم بقية الناس، لكن فهم الإنتصار والهزيمة يبدو جدّ مختلف بينهم وبين عموم البشر. إنّ بقاء قدرة «حزب الله» البسيطة في إرسال بضعة صواريخ نحو إسرائيل ليس انتصاراً، هذا إنْ قيس بمدى الدمار الذي يُحدثه الجيش الإسرائيلي لجسم الحزب وأرض لبنان على حدٍ سواء، وقدرة إسرائيل الدائمة على إرسال صواريخها إلى لبنان أيضاً. والآن، يتحضر الجيش الإسرائيلي لاجتياح مدينة الخيام وسهل مرجعيون، كما ينصب مدافعه فوق أعلى تلة في قرية شمع، حيث بات بإمكانه أن يتصيّد بها كل من يتحرك في مدينة صور. أي إنتصار هذا والإسرائيلي يقضم الأرض اللبنانية ويجرف قراها، ويدمر مئات المباني في الضاحية الجنوبية لبيروت، ويغتال قادة «حزب الله»، فيما هذا الأخير يتقهقر ميدانياً ويرسل بضعة صواريخ لا تصيب، في الغالب، أي شيء مهم في الداخل الإسرائيلي.
على المنوال نفسه، شكر عفيف، ومن قبله أمين عام الحزب الجديد نعيم قاسم، الشعب اللبناني لإيوائهم النازحين، ووضعوا الأمر في إطار «دعم كافة اللبنانيين للمقاومة». مرة أخرى، تتنافى سردية الحزب مع الواقع، إذ إنّ طيفاً واسعاً من اللبنانيين، ودون مبالغة، يرى الصفعة التي يتلقاها الحزب وبيئته أمراً إيجابياً. ربما يعرف أنصار الحزب أنّ مصيبة طائفة في لبنان هي مكسب لبقية الطوائف، وربما لا يعرفون، لكن الأكيد أنّ عملية إيواء النازحين، بمجملها، ليست موافقة أو دعماً لأعمال الحزب، إنّما نابعة من مشاعر وطنية للمضيفين في دعم الناس العزل، فيما جلّهم يتحاشون استقبال أي مسؤول ذي شأن في الحزب.
لقد كانت مشكلة عفيف ورفاقه ظنّهم أنّ ما يؤمنون به هو أمر ثابت ومطلق وحقيقي. غشاوة النظر وفائض القوة الرائج قبل إندلاع الحرب لا يزال في نفوس مسؤولي الحزب، إلا أنّ المجتمع اللبناني قد تغيّر فعلاً، ولا يريد هذه الحرب ولم يستطِع إعلام الحزب إقناعه بأهميتها أو غايتها أو حتى الهدف منها. هل غزة غالية على أبناء لبنان ليضحوا ببلدهم؟ هل غزة بذاتها أغلى من السيّد نصرالله ودمار البنية العسكرية التي بناها «حزب الله» على مدار السنوات؟ إنّ الطامة الكبرى هي أنّ كل هؤلاء انتهوا فيما لم يفيدوا غزة بأي شكل من الأشكال.
غياب عفيف سيجعل من صوت الحزب خافتاً، في انتظار خطابات نعيم قاسم المملة والرتيبة الأسبوعية، ومحاولته تقليد كلمات وحضور وشخصية نصرالله دون أن يستطيع ذلك البتة. سيبقى للحزب جيشه الإلكتروني المتخصّص في السباب والإهانات وتقديم سردية المقاومة بكل تفاصيلها، كما سيبقى له بعض أصوات الإعلاميين والنواب والمسؤولين، لكن الحزب فشل في جعل الحرب مع إسرائيل حرب كلّ اللبنانيين، وأبقاها في حيّز حربه الخاصة وحرب إيران مع إسرائيل.
سيذكر التاريخ محمد عفيف أنّه كان الصوت الأخير لـ«حزب الله» وآخر مروّج جدي لسرديته، فيما آخرون سيذكرون أنّه، في خطاباته الأخيرة، هدّد الإعلام غير الموالي له ببث سردية لا تتوافق مع سردية حزبه. سيبقى هذا الإعلام يتحدث بما يُمثل المصلحة اللبنانية وسرديات أخرى معاكسة لما يريده الحزب، وستظل الحرية تصدح في الإعلام اللبناني، فيما الحزب سيبحث مطولاً عن ناطق رسمي آخر يتجرأ أن يضع دمه على كفه ويروّج لسردية خاسرة في آنٍ واحد.