ممانعة من لا يمتنع
ممانعة من لا يمتنع
إيران التي تجيد حياكة السجاد بصبر وتأنٍّ، إذ كلّما ازدادت العقد في السنتيمتر الواحد كلّما ارتفع ثمن السجادة، وذلك قبل النزول الى البازار للمساومة والبيع والشراء دون الإلتفات الى الحرائق التي تلتهم بيروت ولبنان جنوباً وبقاعاً.
ما يجري اليوم و منذ الثامن من تشرين الاول سنة 2023 تحت عنوان إسناد غزة و مشاغلة العدو الإسرائيلي هو نكبة لبنانية بكلّ ما تحمله الكلمة من قهر. أجل إنّها نكبة لبنانيّة و إن تكن لها جذور شيعيّة بحيث يصعب إستشراف تداعيّاتها على المدى الطويل في هذه الجغرافيا المعقّدة و القلقة، إذ أصبحت تضاهي نكبة فلسطين سنة 1948 في الموت و الدمار و اقتلاع الناس من بيوتهم وأرضهم وحقولهم وأحلامهم وذكرياتهم ورميهم في المجهول على الأرصفة وفي مراكز الإيواء والمنافي البعيدة.
فمن غرائب الأمور وسط هذه المآسي أنّ غالبيّة الممانعين المساندين لحزب الله في حربه مع إسرائيل من كتّاب وصحافيّين ومحلّلين وسيّاسيّين ونجوم شاشات يجتهدون في توصيف الهمجيّة الإسرائيليّة وشهيّة إسرائيل المفتوحة على القتل والتدمير، كما يتفنّنون في توصيف هذا الحقد التلمودي ونشره الموت و الخراب في كل ما تطاله الطائرات والمدافع والتكنولوجيا من بشر وحجر، من رجال و نساء وأطفال ومسعفين وحقول زراعيّة ومؤسّسات إقتصاديّة ومعالم تاريخيّة بحيث أنّ أحياء في المدن اللبنانيّة و قرى وبلدات جنوبيّة وبقاعيّة قد تمّ مسحها وتسويتها بالتراب بحيث لم تعُد قابلة للعيش حتّى وإن توقّفت الحرب في المدى المنظور، يجري كل هذا و كأنّ هؤلاء قد فوجئوا بهذه الهمجيّة والتوحّش إذ يعظوننا في تكرار خشبيّ مملّ على الشاشات، وكأنّهم مبتدئون في اكتشاف النوايا الأسرائيليّة وفي دراسة التاريخ الصهيوني في فلسطين و في المنطقة العربيّة.
فاتّهامات التخاذل والأمركة والصهينة والعمالة جاهزة جواباَ على كلّ متسائل عن مسؤوليّة الحزب في إيقاظ الوحش التوراتي الذي استباح الأرض والسماء التي أضحت تمطر أنقاضاَ ودخاناَ وغباراَ ودموعاَ وسواداَ يخرج من العيون و القلوب.
ضاف إلى هذا التوصيف لهمجيّة وتوحّش إسرائيل غلوّ و مبالغة الخطاب الممانع في نصرة فلسطين على حساب الدم اللّبناني و التدمير المنهجي لكلّ مقوّمات الوطن اللّبناني وكأنّ هناك من يحمّل لبنان وحده وعن قصد وخدمة لمصالح غريبة كل أثقال القضيّة الفلسطينيّة، وكأنّ اللّبنانيّين لم يكتفوا بالسنوات العجاف للحرب الأهليّة اللّبنانيّة حتّى تضاف إليها سنوات عجاف أخرى أكثر قساوة في صراع لا أفق له، وفي إختلال فاضح لموازين القوى. فالخطاب الّذي يدّعي نصرة المقاومة يُغيّب عن قصد إسهامات اللّبنانيّين عبر تاريخهم الفكري والثقافي والميداني في خدمة القضيّة الفلسطينيّة وفي فضح عنصريّة الكيان الإسرائيليّ ومطامعه وأخطاره.
تحت العنوان الكبير لتحرير فلسطين ووهم إزالة إسرائيل تندلع حرب إسرائيليّة إيرانيّة على أرض لبنان، وينشب صراع غيبيّ بين آلهة المتخاصمين خدمة لمصالح إيران التي تجيد حياكة السجاد بصبر وتأنٍّ إذ كلّما ازدادت العقد في السنتيمتر الواحد كلّما ارتفع ثمن السجادة، وذلك قبل النزول إلى البازار للمساومة والبيع والشراء دون الإلتفات إلى الحرائق التي تلتهم بيروت و لبنان جنوباَ و بقاعاَ في مآسِ متنقلة وإمعاناً في تفكيك الدولة و مؤسّساتها والبديهيّات التي تؤسَّس عليها كل الأوطان.
و هكذا فإنّ إنسداد الأفق السياسي لهذا النزاع و شعور اللّبنانيّين بالعجز عن التصدي لفائض قوّة حزب الله في الداخل دفعا الشباب اللّبناني من مختلف الإنتماءات إلى الهجرة بحثاَ عن حياة طبيعيّة بسيطة تكون الأولويّة فيها للدنيا لا للآخرة و للبحث عن مستقبل آمن و نتيجة كل ذلك يتحوّل لبنان يوماَ بعد يوم إلى ما يشبه مأوى العجزة، فالأهل يشيخون وحيدين معزولين في ظل تشتّت بناتهم و أبنائهم في مشارق الارض و مغاربها. ورغم كل ذلك فإنّ الخطاب الممانع الرائج هو خطاب إستعلائيّ إنكاري مكابر إذ يستخف بالتضحيات ولا يعترف بالوقائع التي تفرزها الحرب كل يوم صباحاَ و مساءَ، فالخطاب لا يحدّد مدّة زمنيّة للمواجهة تحت عنوان التحرير علماَ أنّ الأرض تحرّرت سنة 2000 و عندما يواجه بالحجّة و البرهان يعمد أصحابه إلى رفع الصوت و تهمة التخوين والإستطراد لحرف النقاش عن الموضوع.
هذا الآخر المغيّب عن النقاش والتفاوض والتسويات والذي عليه تسديد أثمان الرهانات والمغامرات التي لا ناقة له فيها ولا جمل ممنوع عليه أن يسائل وأن يسأل وأن يناقِش، إذ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والمعارك أبديّة ومستمرّة والحجج حاضرة، فكيف يناصر اللّبنانيّون قضيّة حيث ممنوع عليهم النقاش والمساءلة، نقاش الخطط والآفاق والنتائج؟ وكيف بإمكانهم الإذعان لهذا الخطاب وتسليم أمورهم إلى من يستظهر بشكل بدائي نفس السرديّات مهما تقلّبت الأحوال والظروف لأنّ هذا الخطاب لا يعير إهتماماَ للأكلاف البشريّة والإقتصاديّة والسياسيّة والتربويّة والثقافيّة والإجتماعيّة والأخلاقيّة والنفسيّة، ولا يقيم أي موازنة بينها وبين المنافع، خطاب يغيّب المستقبل ويستنقع في اللحظة الآنيّة والمقاربات الثابتة ويحوّل بذلك كل البلاد بمواطنيها ومسؤوليها إلى هيئة إسعاف وإغاثة تتسوّل المساعدات على أبواب العواصم. الخطاب الممانع الرائج لا يجيب عن سؤال بديهي وأساسي: ماذا يصلح للبنانيّين وما هي مصلحتهم في كلّ ما يجري إلى أي فئة انتموا؟