النصر والهزيمة والآلام

النصر والهزيمة والآلام

  • ٣٠ تشرين الثاني ٢٠٢٤
  • جورج طوق

الإنتصارات الإلهيّة تقرّشها الآلهة والإنسانيّة تتنعّم بها الناس. فليحتفل من يرى نفسه منتصرًا اليوم، وليجهد من يجد نفسه مهزومًا في عدم تكرار هزيمته. فالأهم، بعد المطحنة تلك، هو، وفقًا للمقولة الأجنبية «The day after». فإذا سلك البلد نحو المقبول من الحياة، يُثبِّت المنتصر نصره ويُعوَّض للمهزوم هزيمته.

في الأول من تشرين الأول، عام ٣٣١ قبل الميلاد، وفي مكانٍ ما على مقربةٍ من منطقة نينوى العراقيّة، وقَف الإسكندر المقدونيّ مُعلنًا نهاية حقبة الأخمينيّين الفُرس. ولمزيدٍ من سخرية القدر والتاريخ المُعاد، وقعت معركة «جاوجيمالا» هذه، بعد أشهُرٍ على حصارٍ دامٍ لغزّة، وفظائع ومجازر فيها، وصمودٍ أسطوريٍّ لأهلها، لم ينقذها، لكنّه أدخلها إلى ملاحم التاريخ. ليس دخول ملاحم التاريخ جللًا حتّى يُصبح تاريخًا، والتاريخ ليس لمعاصريه.

«المشتَرك بين الإنتصارات والهزائم»
قاسمٌ مشتركٌ وحيدٌ بين المنتصر والمهزوم: الآلام. والأخيرة هي، دائمًا، غير متناسبة بين طرفي كلّ نزاع. لا عدالة في الحرب والعنف والقتل أصلًا، كي نبحث في تناسب وعدالة الآلام. وحدها القدرة على ضمْد الجراح هي النصر؛ نصرٌ إنسانيّ لا إلهيّ. الإنتصارات الإلهيّة تقرّشها الآلهة والإنسانيّة تتنعّم بها الناس. النصر، الذي لا جدال حوله، في حرب الحقد الإسرائيليّ على لبنان، هو التضامن المجتمعيّ الذي دهس كلّ عهارة السياسة والطائفيّة. فالطبع أبقى من التطبّع، وأطباع المجتمع اللبنانيّ، خلف غشاء السياسة، شديدة الحُسن، وتطبّعهم السياسيّ هو غايةٌ في السوء. هذا العوام لحسن الطباع المجتمعيّة هو إنتصارٌ والنجاة إنتصارٌ والعودة أيضًا. إنتصاراتٌ قد تطبع مستقبل لبنان القريب.

«النصر فيما يليه»
لم يجهد الإسكندر في عناء تعميم وتثبيت سرديّات إنتصاره في «جاوجيمالا»، بل إنصرف بعدها إلى كتابة نصره وعصره في بابل، وإلى تمديد فتوحاته وإلصاق إسمه بحواضر أينما حلّ. لم يكن نصرُه قابلًا للجدل. أحدٌ لم يجادل فيه أصلًا. فالنصر هو فيما يليه. إنتصر بونابرت في معارك لا تُحصى، لكنْ، بعد انتصاراته تلك، خسر الفرنسيّون خسارة ساحقة من مكتسبات ثورتهم، ودخلت فرنسا عصرًا شديد المظالم والظلمة. إنهزمت اليابان، شرّ هزيمةٍ،  في الحرب العالميّة الثانيّة، فتَلتْها نهضةٌ غير مسبوقة، وسبق اليابانيّون الكوكب إلى السلام والأمان والتقدّميّة والتطوّر والإنتاج والإستدامة.
هذا الجدال اللبنانيّ، حول النصر والهزيمة اليوم، هو قمّة العبثيّة وضياع الوقت والبوصلة. فالنصر فيما يليه، والهزيمة أيضًا. ليست حرب السرديّات مهمّة. وحده القادم هو المهمّ. في العام ٢٠٠٦، كانت معالم النصر أكثر بروزًا من اليوم بكثير، وجاء تقريشه تفليسةً فاضحةً لقروش كلّ اللبنانيّين. عاش لبنان، على وقع أناشيد ذاك النصر، أسوأ حقبةٍ في تاريخه: تعثّرٌ وفسادٌ وتفلّتٌ وانحطاطٌ وتفكّكٌ وعزلةٌ وهجرةٌ وانهيار.

«The day after»
لا يهمّ كيف يُوَصّف وقف إطلاق النار: بالعبريّة كُتب أم بالعربيّة؟ نصرٌ أم انهزام؟ ظفرٌ أم استسلام؟ معاهدة ڤرساي أم إعلان الإستقلال؟ كلّ منتصرٍ، على مرّ التاريخ، وقف، فور انقضاء جنون النصال، قائلًا: غدًا يومٌ آخر. فليحتفل من يرى نفسه منتصرًا اليوم، وليجهد من يجد نفسه مهزومًا في عدم تكرار هزيمته. فالأهم، بعد المطحنة تلك، هو، وفقًا للمقولة الأجنبيّة: «The day after». فإذا سلك البلد نحو المقبول من الحياة، يُثبِّت المنتصر نصره ويُعوَّض للمهزوم هزيمته. النصر فيما يليه. فالقادم لن تفكّ زحمة المحلّلين طلاسمه، ولن يعطي فائض الخبراء إجابات صادقة. وحده القادم سيجيب، والقادم لناظره قريب.