أنا مارونيّ، إذًا أنا مرشّح

أنا مارونيّ، إذًا أنا مرشّح

  • ٠٧ كانون الثاني ٢٠٢٥
  • جورج طوق

لم يعُد سقف التوقّعات، عند اللبنانيّين، مرتفعًا. جلّ ما نحلم به هو فترة استراحةٍ قصيرةٍ من الثبات والأمان، نستعيد خلالها أنفاسنا، علّنا نستجمع شيئًا من القوّة، لنكمل حياتنا البائسة بمخاوفَ وأحزانٍ أقلّ بؤسًا.

شاءت الظروف، قبل قرابة قرن، أن انتقلت صلاحيّات المفوّض السامي الفرنسيّ، إلى رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة. وشاءت الظروف، أيضًا، أن يكون الرئيس، هذا، مارونيًّا. لم تأتِ الظروف، تلك، وفقًا لقناعة بالتسامح والتعايش والوحدة، بل كانت نتاج صفقةِ تخلّي الموارنة عن شغف الحماية الفرنسيّة مُقابل تخلّي السُّنّة عن رومنسيّة الإندماج مع سوريا. ساعة « تخلّي» ألقت على الموارنة تعويذةً عسيرة الفكّ. تعويذةٌ، حتّى الطائف، لم يخفّف من حدّتها: أنا مارونيّ، إذًا أنا مرشّح للرئاسة.

«لعنة الموارنة»
عند كلّ استحقاقٍ رئاسيّ، شيءٌ ما يُدخل المارونيّ في حالةٍ من التصاغر والهذيان والإستذئاب في آن. تخلٍّ مهين عن الكرامة، إنفصالٌ تامّ عن الواقع والإدراك الذاتيّ بالحجم، وشبقٌ عدائيٌّ يصيب يُمنةً ويُسرة. والأغرب، أنّ مُشتَهي الكراسي، مثل مستذئبي الحكايات، ينسَون ما فعلوه، فور اختباء القمر.

«جعجع وباسيل وفرنجيّة»
ضياعٌ مطلق يخيّم على الحركيّة السياسيّة الرئاسيّة لحزبَيْ باسيل وجعجع. فالأول في حالة إنكار فقدان دلال عمّه وهواء حزب الله في بالون حجمه. والثاني، كعادته، هو ملك الرهانات الخاطئة.
يرى باسيل في ترشّح قائد الجيش مسألة موتٍ أو حياة لحاضره ومستقبله. فهو فاقدٌ للسيطرة على كتلته، ويوقن أنّ إرثَ عمّه لم يعُد محصورًا به، وأنّه لن ينجو من قيامة شخصيّة مارونيّة مرقّطة إسمها، لسخرية القدر وفجور «كارما»، الجنرال عون. أيًّا كان: زياد بارود، جهاد أزعور، البيسري. فرنجيّة أو حتّى سمير جعجع… إلّا ذاك الجنرال.

أمّا سمير جعجع، الذي فقد قِبلة خطابه بنار إسرائيل، فيبدو عاجزًا عن حصد جائزته. هو على يقينٍ تامّ أنّ تأييد القريب منه أبعد، بكثـــــير، من البعيد. ثقة الموارنة به، حتّى الحلفاء منهم، شديدة التدنّي. جنبلاط لا يطيقه، ونقطة ضعفه، نبيه برّي، بقيَت نقطةَ ضعفٍ له في الهرولة نحو بعبدا. فالرجل بنى لنفسه سرديّة القوّة القادرة على المواجهات الحامية. سرديّةٌ مفيدة جماهيريًّا، وقاتلةٌ رئاسيًّا. وهو، على غرار باسيل، يبحث عن الأقلّ ضررا عليه، ويخشى رئيسًا قادرًا على استنهاض حالةٍ مسيحيّة تلمّ، عن دربه، شتات أطلال الحالة العونيّة. يعرف الرجل أنّ رئاسته، اليوم، هي محض خرافة، ويخوض معركةً رئاسيّة شعبويّة تُقارب، في الهذيان، سرديّة النصر لحزب الله.
وحده فرنجيّة أدرك حجم خسارته. حيّد الرجل نفسه عن السّجال الرئاسيّ. أدرك، تمامًا، أنّ السَّـيِّد والأسد باتا سرابًا، وانتقل، بصمتٍ، إلى مقاعد المتفرّجين.

«المرقّطان»
يبقى المرشّحان الأكثر تداولًا، في بازار الرئاسة، هما المرقّطان: عون والبيسري. الإثنان، لم تحم، حتّى الساعة، أيّ شبهات فسادٍ حولهم. قد يرى اللبنانيّون، في ذلك، قليلًا من النور في هذا النفق المظلم والطويل.
كان قائد الجيش خيارًا مثاليًّا لجميع خصوم حزب الله. حلمٌ مقابل كابوس فرنجيّة. ومع انجلاء الكابوس، بات الحلم، هو الآخر، كابوسًا للبعض، وإنّ كان أقلّ هَولًا. علاقات الرجل بالأميركيّين ممتازة، وبالسعوديّين أيضًا. المُمانعون له خفتت هيبتهم إلى حدودٍ دُنيا. يشكّل الجنرال المرشّح إعلانًا معنويًّا بانكفاء زمن الميليشيات في لبنان وترميم هيبة الدولة عبر الرَّحْم العسكريّ. الرجل يتمتّع بسِماتٍ قياديّة وحزمٍ وجرأة. فهو قد يكون مفيدًا للمرحلة المقبلة، إن أجاد التمثّل بتجربة الرئيس فؤاد شهاب من دون مكتبٍ ثانٍ.
ليس إسم اللواء الياس البيسري أقلّ تَداوُلًا من عون. الرجل خفيٌّ على الإعلام، على غير عادات الساسة. وسيرتُه، وفق المعلوم القليل عنه، حسنة. حظوظ اللواء مرتفعة بقدر حظوظ العماد. لكن، في لعبة الحظ، لا أحد يتفوّق على البيسري. فهو كان شديد الحظ في نجاته من محاولة اغتيال الياس المرّ. وفي ورقة «يا نصيب» رابحةٍ ثانية، انتقل من جهاز الأمن الداخلي إلى العامّ. فاز، بورقةٍ ثالثة، بإنابة عبّاس ابراهيم، في فخٍّ نصبه برّي للأخير. وفي الرابعة فاز بتمديدٍ مُهدًى، بالأساس، إلى مُنافسه المرقّط. يصبو اللواء، اليوم، إلى ورقةٍ رابحةٍ رابعة، وينتظر سحب الجائزة الكُبرى في التاسع من الشهر الجاري.

«التاسع من كانون»
مع اكتمال نصاب جلسة المُوفَدين، تبدو جلسة تعيين الرئيس العتيد واعدةً. يعلم القاصي والداني أنّ مجلس النوّاب ليس، فعليًّا، الهيئة الناخبة لرئيس الجمهوريّة. لا كلام لساسة البلد وزعمائه وقادته وناسه. لم يعُد سقف التوقّعات، عند اللبنانيّين، مرتفعًا. جلّ ما نحلم به هو فترة استراحةٍ قصيرةٍ من الثبات والأمان، نستعيد خلالها أنفاسنا، علّنا نستجمع شيئًا من القوّة، لنكمل حياتنا البائسة بمخاوفَ وأحزانٍ أقلّ بؤسًا ممّا أغرقتنا به منظومة النهب والتحاصُص والإفساد والفتنة والنيترات، منذ أكثر من مئة عام.