موسيقى من دون آلات .. سرّ من أسرار الترنيم البيزنطي!
موسيقى من دون آلات .. سرّ من أسرار الترنيم البيزنطي!
موسيقى لا تُعزف بل تُرتّل.. لا تُسمع بل تُعاش.. البيزنطية تهمُس بالعظمة!
من دون آلات موسيقية، يطلق المرنّمون العناء لأصواتهم، وسط خشوع كنائسي، إنّه الصوت البيزنطي.
بشكل عام تركزت العبادة المسيحية الأولى على المزامير، التي ورثتها المسيحية عن الهيكل الأورشليمي. وأضيف إليها بعض التراتيل المسيحية مثل « المجد لك يا مظهر النور…» و«نشيد الغروب أيها النور البهي» التي ُيعتبر أقدم ترتيلة مسيحية وصلت إلينا. الموسيقى البيزنطية هي دمج بين مصدرين، من المناسك والأديرة، حيث كانت تتم تلاوة المزامير من قبل مرنِّم، الذي كان يتلو المزامير بترتيب دوري بتأنٍ وبصوت مرتفع، وكان الرهبان يُصغون ويتأملون بالكلمات التي يسمعونها. والمصدر الثاني من كاتدرائيات المدن، حيث لم تتلََ المزامير بحسب ترتيبها، إنّما إختيرت بحسب المواضيع لتلائم الرتب المقامة.
الألحان البيزنطية نبض الكنيسة الأرثوذكسية. منها تنبع كلمات مقدّسة تروي حكاية سماوية منذ العهد القديم إلى الجديد، التوراة، المزامير، زمن الميلاد، فآلام المسيح.. هي صلاة تُتلى مرّتين، مرّة عندما نقرأ ونسمع كلماتها ، ومرّة أخرى، عندما تُرتل.
«إفرحي يا عروس لا عروس لها، لأّن الله معنا» «افتح فمي، اعترفوا للرب»
في القرن السادس وضع سويرس السرياني، أسقف إنطاكية، أول من نظام موسيقي مبنيّ على ثمانية ألحان، وتمّ توزيع الألحان إلى أربع ألحان أصلية وأربع ألحان مشتقة.
قبل التطرّق إلى سلّم الالحان البيزنطية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإنشاد البيزنطي هو إنشاد طقسي أحادي يُؤدى بصوت واحد أو جماعي موحد، وبوصفه فنًا حيًا استمر لأكثر من ألفي عام، ويُعدّ تقليدًا ثقافيًا مهمًا ونظامًا موسيقيًا متكاملًا يُشكّل جزءًا من التقاليد الموسيقية المشتركة التي تطوّرت في الإمبراطورية البيزنطية. ومن خلال تسليط الضوء على النصوص الطقسية الخاصة بالكنيسة الأرثوذكسية وتعزيزها موسيقيًا، يرتبط هذا الإنشاد إرتباطًا وثيقًا بالحياة الروحية وممارسات العبادة الدينية. يركّز هذا الفن الصوتي أساسًا على أداء النص الكنسي، ويمكن القول إنّ الإنشاد البيزنطي موجود من أجل «الكلمة» (اللوغوس)، إذ إنّ كل جانب من جوانب هذا التقليد غايته نشر الرسالة المقدّسة.
يشرح المرتّل جوزيف يزبك أنّ الموسيقى البيزنطية هي موسيقى كنسية أصيلة، أخذت شكلها النهائي في الإمبراطورية الرومية، حيث كانت تصنّف الموسيقى إلى نوعين كنسية وغير كنسية.
أما مصطلح «بيزنطية»، فدخل الاستخدام لاحقًا لذلك، يعتبر يزبك أنّ التسمية الأدق هي «الموسيقى الكنسية القديمة»، رغم استمرار التسمية الشائعة «بيزنطية» حتى اليوم.
ويفسّر أنّ جذور الموسيقى البيزنطية مرتبطة بنظريتين لمصدرها، يعتبر البعض أنّها تعود إلى الموسيقى اليهودية و البعض الآخر إلى الثقافة اليونانية. لكن تبقى النظرية الأقرب كما هي حال كلّ الموسيقى الكنسية، أنّها نشأت على يد التلاميذ وكلّ رموز الهيكل، أنّ أصولها يهودية. من ثمّ تطوّرت هذه الموسيقى لتتميّز بهوية خاصة في كلّ منطقة. فنشأت الموسيقى السريانية، الموسيقى الغريغورية، كما البيزنطية التي أخذت شكلها النهائي في المنطقة الرومية. ويذكر أنّ القدّيس يوحنا الدمشقي هو أوّل من نظّم ألحانها الثمانية.
ويروي يزبك، أنّ البيزنطية اتخذت طابعاً خاص في كلّ منطقة، ويُقال أنّه عندما أرسل ملك روسيا بعثات إلى القسطنطينية، وشاركوا آنذاك في القدّاس قال أحد المبعوثين بعد سماع التراتيل: «حقاً شعرنا أننا في السماء».
ويلفت إلى أنّ الموسيقى السريانية مثلاً، نشأت من تراتيل شعبية غير منظمة، فيما اللحن البيزنطي مبني على قواعد صارمة تعود للإمبراطورية، ما أضفى عليه مزيجًا من الجلال والروحانية.
ويشدّد يزبك على أنّ الموسيقى البيزنطية ليست مقامية بالمعنى التقليدي، بل تُشبه اللغة بقواعدها وتعابيرها، حيث تقوم على «جُمل» ثابتة لا يمكن استحداث غيرها، بل فقط تلوينها وتمويجها. كما أنّ لكل لحن ثلاثة أنماط: السريع، المتوسّط، والمطوّل. وقد رأى الآباء القديسون أنّ هذه البنية هي الأنجح للحفاظ على رهبة وروحانية الترتيل.
ويختم بالقول إنّ الترتيل البيزنطي ليس مجرّد أداء موسيقي، بل هو خبرة روحية تُخاطب العقل قبل العاطفة، فامتناع الكنائس الأرثوذكسية عن استخدام الآلات، يتيح للمصلّي تواصلًا ذهنيًا عميقًا مع الروحانيات.
وعند الدخول الى كنيسة شرقية، تطالع المؤمن الألحان الصافية الخارجة من أعماق المرنّمين، وكأنّها ترتيلة من العقل إلى السماء مباشرة، من نسج قدّيسين أتقنوا هذا الفن العظيم.