«قنديل» تُلقي البندقية.. والضاحية تتمسك بها

«قنديل» تُلقي البندقية.. والضاحية تتمسك بها

  • ١٩ أيار ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

أيّ مفارقة هذه؟ أن يقف المقاتل الكردي، وقد رأى كل أنواع الظلم، ويقول: كفى. وأن يقف السياسي في الضاحية الجنوبية لبيروت، وقد رأى كل أنواع الخراب، ويقول: لم نبدأ بعد.

في جبال قنديل العراقية، حيث تُروى الحكايات بالنار والثلج، وحيث يولد المقاتلون من رحم الحلم القومي والجرح المزمن، قرر حزب «العمال الكردستاني» أن يضع البندقية جانباً، وأن يطوي صفحة امتدت لعقود، كانت فيها البنادق كالأبجدية، والسلاح كالمبدأ، والنضال المسلح هو اللغة الوحيدة الممكنة أمام أنظمة لا تفهم إلا القوة.

في لحظة غير مألوفة في تاريخ الحركات الثورية، أعلن التنظيم الكردي الأكثر تعقيداً وتجذّراً في المنطقة في 12 أيار الحالي، نيته تفكيك ذاته، ونزع الطلقة الأخيرة من ذاكرة الجبل، واختيار السلام لا بوصفه استسلاماً، بل قمة في الوعي السياسي، وذروة في النضج التاريخي.

هذا القرار، الذي لم تأتِ به هزيمة، ولا فرضته قوى السلاح المعاكس، جاء من داخل التجربة، من قلب النار، ومن عيون الأمهات الكرديات اللواتي انتظرن أولادهن لأربعين عاماً، هو وحده ما يستحق أن يُكتب في كتب التاريخ، لا كخاتمة لمرحلة، بل كبداية لعصر جديد من الفكر المقاوم: عصر الشجاعة في مراجعة الذات، لا التمادي في عناد الخراب.

حزب «العمال الكردستاني» لم يكن تنظيماً عابراً في جغرافيا الكفاح في الشرق الأوسط. هو المدرسة التي خرجت منها قيادات، والأرض التي تشربت دماء الآلاف، والمشروع الذي شكّل وجدان أمة موزعة على الخرائط ومحرومة من الخريطة أو بلد أو أمة. وعندما يختار مثل هذا الحزب أن يُغلق دفتر البنادق، فإنّه لا يهرب من المعركة، بل ينتصر على أكثر أعدائه صعوبة: ذاكرة الدم، وإدمان السلاح، وحنين الكفاح إلى استمرار الثورة لأجل الثورة.

في المقابل، في جنوب لبنان وبقاعه، أي في لبنان المتعب، والبلد الذي يُحسن تفويت اللحظة، ويبرع في إعادة إنتاج أزماته، يتمسّك «حزب الله» بسلاحه كما يتمسّك الغريق بخشبة مكسورة. لا مراجعة، لا محاسبة، لا لحظة تأمل في مسارٍ جلب الويلات، وأدخل لبنان في حروب لا يعرفها، ولا يريدها، ولا يقدر على تبعاتها.

فبينما قرر الكردي أن يسلّم للسياسة ما تبقى من حياة، لا يزال «الحزب الإلهي» يعتقد أنّ السياسة مجرد استراحة محارب، وأنّ الحكم امتداد للمعركة، وأنّ البندقية فوق الدولة، وفوق القانون، وفوق الناس.

أيّ مفارقة هذه؟ أن يقف المقاتل الكردي في الجبل، وقد رأى كل أنواع الظلم، ويقول: كفى. وأن يقف السياسي في الضاحية الجنوبية لبيروت، وقد رأى كل أنواع الخراب، ويقول: لم نبدأ بعد. 

«حزب الله»، الذي دخل الحياة اللبنانية على حصان المقاومة، لم ينزل عنه قط. تحوّل إلى جيش، ثم إلى سلطة، ثم إلى ظلّ فوق السلطة، إلى حدّ بات فيه الوطن رهينة خياراته، والدولة خادمة لأولوياته. حوّل لبنان إلى خط تماس دائم، إلى خاصرة إيرانية، إلى خبر عاجل ينتظر التفجير القادم.

ومثلما قرأ حزب «العمال الكردستاني» واقع شعبه، وقرّر أن يعيد ترتيب أولوياته، يرفض «حزب الله» أن يرى حجم الكارثة. لا مصيبة تهزّه، لا هجرة تقلقه، لا انهيار اقتصادي يغيّر بوصلته. وحدها المعارك تثير فيه النشوة، ووحده السلاح يُشعره بالوجود. وكأنّ القضية عنده ليست تحريراً، بل احتكاراً للدم، ووصاية على الخوف.

وإذا كان الحزب الكردي قرأ الجغرافيا وتغيّر، فإنّ الحزب اللبناني قرأ التاريخ وتمسّك به. الأوّل فهم أنّ التغيير يبدأ من الإعتراف، فيما الثاني لا يزال يقدّس «الانتصارات» ولو جاءت على ركام وطن. الأول عاد إلى الناس، والثاني بقي أسير الخطاب الفوقي، الذي يُحذّر من المؤامرة، ويتوعد بالويلات، ويكفّر الآخر، ثم يسأل: لماذا لا يُحبّنا أحد؟

أي درس نحتاج أكثر من ذلك؟ أن تعلن حركة مسلحة، ناضلت لعقود، وقدّمت آلاف الشهداء، أنّ الزمن تغيّر، وأنّ الشعوب لا تعيش إلى الأبد في الظل، ولا تبني أوطانها على صوت الرصاص، لهو أقدس الأفعال. ثم نرى حزباً يرفع شعار «التحرير» وقد أصبح عبئاً على الدولة، وورماً في جسدها، و«دويلة» مهزومة في قلبها.

ليست البطولة في حمل السلاح، بل في وضعه حين يحين الوقت. ليست الوطنية في القتال، بل في البناء ما بعد القتال. وما فعله الكرد اليوم هو شجاعة نادرة في زمن لا يجرؤ فيه كثيرون على الإعتذار، أو التراجع، أو قول «ربما كنّا مخطئين».

فلعلّ «حزب الله»، الذي خَبر الحروب، وخاضها على أكثر من جبهة، وراكم انتصارات بلا أفق، ينظر يوماً إلى جبل قنديل أو إلى سجن زعيم «الكردستاني» عبدالله أوجلان، لا بوصفه تجربة غريبة أو بعيدة، بل مرآة الحقيقة. ويقرأ ما فعله حزب العمال، لا كخذلان، بل كأعلى درجات الانتصار على النفس، والعودة إلى الشعب، واستعادة الإنسان من غبار البنادق.
حتى ذلك الحين، سيبقى لبنان مرهقاً بخطاب الحرب، خائفاً من ردة فعل، ومشلولاً أمام سلاح صدئ لا يحميه، بل يصادر مستقبله.

وحين يأتي اليوم الذي ينزل فيه السلاح عن أكتاف السياسة، ويجلس فيه اللبنانيون إلى طاولة واحدة، دون تهديد أو تخوين أو خطاب يستلهم الحرب والسلاح، سيكون الوطن قد بدأ بالشفاء. أمّا الآن، فنكتب عن الكرد بإعجاب، وننظر إلى أنفسنا بحسرة.