أديرة لبنان وأوهام التحريض

أديرة لبنان وأوهام التحريض

  • ٠٩ حزيران ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

في الأديرة التي اتهمها عماد الحوت، لم تُخزّن الأسلحة يوماً، بل خُزّنت المخطوطات، وشُحِذ العقل، وتعلّمت الأجيال، ونُسخت أولى الكتب، وطُبِعت أولى الكلمات. وعندما كان البعض يُراكم العَصَبيات والخطابات الجوفاء، كانت الرهبنات تُراكم المدارس والمستشفيات والمطبوعات.

في وطن يكاد يضيع بين رماد أزماته وركام مؤسساته، وفي لحظة يحتاج فيها اللبنانيون إلى مَن يواسي وجعهم ويشرّع لهم شيئاً من إصلاح، اختار نائب بيروت عن «الجماعة الإسلامية»، عماد الحوت، أن يفتح باباً عتيقاً على خطاب مسموم، قائلاً: «إنّ المسيحيين يخبئون السلاح في الأديرة». ليس هذا إتهاماً عابراً قيل في برنامج «صار الوقت» يوم الخميس الفائت، بل خطاباً له جذوره وأهدافه، أُلبِس ثوب السياسة، لكن فاحت منه رائحة التحريض الطائفي الممنهج.

هذا الكلام الذي قيل في «لحظة تخلٍ» وعصبية على شاشة، لا يمكن فصله عن السياق الإقليمي الأوسع، إذ لطالما استخدمت الجماعات الإسلامية، وعلى رأسها حركة «الإخوان المسلمين» التي تتفرّع منها «الجماعة الإسلامية» في لبنان، هذا النوع من الخطاب ضدّ المسيحيين في مصر. هناك، أُلصقت تهم التخزين العسكري بالأديرة، لتبرير تهميشهم ومحوهم من الفضاء العام، وكأنّ الدير متراس، لا مكان للسكينة والصلاة. واليوم، يُعاد تدوير هذا الإتهام في بيروت، لكأنّ الحوت قرأ النصّ المصري الرتيب، وأراد نسخه بلغة لبنانية.

لكنّه نسي أنّ المسيحيين في لبنان ليسوا طائفة محايدة تعيش على الهامش. هم ليسوا مجرد سكان يعبدون ربّهم خلف جدران منازلهم، بل جماعة مؤسِسة في الكيان، لها حضور متجذّر في عمق الأرض، وفي روح الوطن، وفي مشروع الدولة ذاته. هم الذين ساهموا في تخيّل هذا البلد ومن ثم بنائه، لا على قياس الدين أو الطائفة، بل على قياس حرية الإنسان فيه. 

في الأديرة التي اتهمها الحوت، لم تُخزّن الأسلحة يوماً، بل خُزّنت المخطوطات وفاحت رائحة البخور. لم تُشحَذ السيوف، بل شُحِذ العقل، وتعلّمت الأجيال. هناك نُسخت أولى الكتب، وهناك طُبِعت أولى الكلمات. لا مبالغة حين نقول إنّ الأديرة المسيحية، والرهبنات اللبنانية، صنعت لبنان الثقافة والهوية قبل أن يصنع السياسيون لبنان الذي نعرفه. وعندما كان البعض يُراكم العَصَبيات والخطابات الجوفاء، كانت الرهبنات تُراكم المدارس والمستشفيات والمطبوعات.

إنّ هذا الوطن لا يُختصر بدولة ظهرت في القرن العشرين، بل هو تراكم حضاري، قام على الشراكة بين الطوائف، على الحوار بين الشرق والغرب والإنفتاح، على توازن دقيق بين القوة والمعنى والمضمون. ومن يُحاول أن يضرب هذا التوازن باتهام رخيص حول الأديرة، إنّما يهدم أساسات وطن كلفنا الكثير من الدم لنحافظ عليه.

الحوت، الآتي من جماعة ترى في الدين سلطة سياسية لا طاقة روحية، أراد تحويل النقاش من فشل الدولة إلى «مؤامرة مسيحية» متخيَّلة. من إنهيار الإقتصاد وفشل نواب الأمة إلى «سلاح في الأديرة». من عجز البرلمان إلى رهبان يُتّهمون زوراً لكأنّهم عصابة تعد العدّة للإنقضاض على الجمهورية، لكأنّنا في زمن الحملات الصليبية والسلاجقة، لا في لبنان القرن الحادي والعشرين.

أليس الأجدر بالحوت أن ينظر إلى بيروت التي يمثلها؟ تلك العاصمة المتعبة التي نزفت بعد الإنفجار الكبير، وتركها السياسيون يتيمة؟ أليس الأولى به أن يتحدّث عن النفايات في شوارع العاصمة، عن المرضى المنتظرين على أبواب المستشفيات، عن المدارس التي تُقفل، عن مآسي الأحياء التي انتخبته؟ أم أنّه يجد في الخطاب الطائفي وسيلة لإخفاء عجزه النيابي وعجز أقرانه من النواب؟

بيروت لا تريد من يمثلها أن تكون خطاباته متوهمة وتنم عن كراهية، بل تريد من يعمل لتشريع وتنفيذ سياسات عادلة. لا تريد من يفتّش عن راهب مسالِم يحمل مسبحته ويصلي لربّه، بل من يُفتّش عن فرص العمل، وحلول للإنهيار، وبقايا الدولة. فالنائب الذي يرى في الرهبنة تهديداً، لا يفقه الفرق بين الرصانة والفوضى، ولا يميّز بين صمت التأمل وضجيج الحرب.

والأخطر أنّ هذه الإتهامات تأتي في وقت تُستهدف فيه الصيغة اللبنانية من أطراف عدة، وتُشيطن فيه فكرة التعددية. ففي كل مرة تفشل منظومة ما في إنتاج حلول، تعود إلى خطاب الهوية كفزّاعة، تنبش القبور بدل أن تبني الجسور. لكن المسيحيين في لبنان لم يطلبوا إذناً للوجود، وهم ليسوا بحاجة إلى شهادة حسن سلوك من أحد. لأنّهم، ببساطة، من صانعي هوية هذا الوطن، لا ضيوف عليه، هم «رهبان الليل وفرسان النهار» كما قيل عن الصحابة يوماً. 

وهنا، لا بدّ من القول بوضوح: نحن لسنا في مصر، ولن نكون. ما يُقال في شوارع القاهرة لا يقال لأديرة جبال ووديان وبقاع وروابي لبنان. هذا وطن له خصوصيته، له تاريخه المقاوم، وله صيغة فريدة لم تنشأ من الغلبة، بل من التوازن، لا من الإخضاع بل من الحوار.

فليُفتش الحوت عن السلاح في مكان آخر، حيث تُبنى الدويلات وتُكدّس الأموال وتُحاك المؤامرات. وليدع الأديرة وشأنها، فهي لا تُعِد لـ«جهاد مسلح» ولا لقيام «حكومة دينية»، بل تصلي للمسيحي والمسلم على حد سواء. وإذا كانت الأديرة تخبّئ شيئاً بالفعل، فهي تخبّئ «سر الملكوت» وأجران «الميرون» وبعض الحنين إلى وطن لا تكون فيه مهنة الساسة الكذب، ولا التحريض وسيلة، ولا التكاذب الوطني المشترك ناموس.

فلنقلها كما هي: من يتهم الأديرة اليوم، يقوّض لبنان الأمس والغد. ومن يُريد لبناناً أحادياً، طائفياً، متزمتاً، خاضعاً لإيديولوجيا واحدة، فهو عدوّ لبنان وعدو شعبه.. كما دائماً.