نهاية زمن السلاح: حين تنقلب الدنيا على من ظنّها ملكاً له

نهاية زمن السلاح: حين تنقلب الدنيا على من ظنّها ملكاً له

  • ٠٦ آب ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

لم يعُد أحد مقتنع أنّ السلاح خارج الدولة «يحمي لبنان»، بل بات الكل يدرك أنّه يمنع قيام لبنان. لقد أعطتك الحرب فرصتك، أيّها الحزب. أعطِ الآن السلام فرصته. دع الدولة تقوم، بلا وصاية، بلا بنادق، بلا تهديد. فالحقيقة التي تأخّرت كثيراً، قد تكون وحدها بداية العدالة.. وبداية وطن

الدنيا دولاب، لا تقف على حال، ولا تحفظ لأحد مقاماً. والجبال التي بدت يوماً عصية على الإنحناء، باتت اليوم ركاماً من وهم ثقيل. فيما ذلك الإصبع الذي طالما هُتِف له، وصُوِّرَ أنّه وحده القادر على صدّ العدو، باتت اليوم تحت التراب، والسلاح في مهب الريح.

خَطّت الحكومة اللبنانية خطوة شجاعة بالأمس. قرار صريح، مباشر، لا يحتمل التأويل: نزع سلاح «حزب الله»، ومنح الجيش اللبناني صلاحية وضع خطة شاملة، تُسلَّم للحكومة قبل نهاية الشهر، على أن تُنفَّذ قبل نهاية العام. لا مقاربات رمادية، لا «سرايا مقاومة» ولا «معادلات ثلاثية». قرار واحد، يعني أمراً واحداً: الدولة قررت أن تكون.

لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في القرار نفسه، بل في الصدى الذي سبقه. فجأة، بدأ الحلفاء بالتنصّل، بل بالإنقلاب. جبران باسيل، الذي ما توانى يوماً عن الدفاع عن «تفاهمه» مع الحزب، راح يتحدث عن «ضرورة حصرية السلاح بيد الدولة». وطوني فرنجية، إبن المدرسة العتيقة للتحالف مع محور الممانعة، قالها بوضوح: لا بدّ من تسليم السلاح.

 

من يعرف «حزب الله» بالعمق، يعرف أنّه يعيش على وقع تحالف دقيق بين أوهام الإنتصارات وفائض القوة. عاش على وهج تموز القديم، وعلى هزائم الآخرين، وعلى صمت الدولة وتواطؤ النخبة. إستثمر في الخراب، واحتكر الوطنية، وشيطن كل من لم يركع له. لكن كل كذبة، مهما طال عمرها، تذوب عند أول سؤال بسيط: ماذا بعد؟

 

في الحرب الأخيرة، إنكشفت أوراق القوة. قُصفت الضاحية، دُمِّرَت مراكز قيادية، إغتيل القادة واحداً تلو الآخر في قلب سوريا وقلب بيروت، وهُدِّد أمن الحليف الإيراني من فوق ومن تحت. وطوال ذلك، بقي الحزب جامداً، يردّ فقط ببيانات الحزن والفخر، لا بصواريخ الردع التي طالما افتخر بها. وحين تُمنَح إسرائيل هذه المساحة من الإستفراد، فلا شرعية تبقى لسلاح لا يستعمل إلا في الداخل.

من يُهزَم أمام إسرائيل، لا يضع شروطاً على شركائه في الوطن. ومن يفقد قدرة الرد، لا يمكنه أن يبقى ممسكاً بقرار الحرب والسلم. ومن يرى الإحتلال يُعيد رسم الخرائط بالنار، ويكتفي بالإستنكار وبيانات التبريك بالإستشهاد، لا يمكنه أن يتحدث عن «محور مقاومة».

لقد أخطأ الحزب في الظن بأنّه قادر على أن يبقى إلى الأبد فوق المحاسبة، وفوق الدولة، وفوق السياسة. أخطأ حين اعتقد أنّ «إنتصار» 2006 سيغفر له حصار بيروت في 2008، أو تدخله في سوريا بعد 2011، أو سحقه لقلب السياسة اللبنانية بعد 2016. أخطأ حين أراد أن يكون «المرشد» وصانع الرؤساء، وموزّع الحقائب، وقاضي الولاءات.

 

لكن الخطأ الأكبر، أنّ الحزب لم يكتفِ بالسلاح، بل أراد تغيير وجه البلاد. أراد أن يُعيد صياغة الهوية، وأن يجعل من «ثقافة المقاومة» بديلاً عن الدولة. لم يفهم أنّ الناس لا تعيش على المواقف، بل على الخبز والكرامة والإستقرار.

اليوم، يتغيّر المزاج. لا لأنّ الناس نسيت إسرائيل، بل لأنّهم لم يعودوا يثقون بمن يدّعي مواجهتها. لا لأنّهم صاروا دعاة استسلام، بل لأنّهم تعبوا من أن تكون حياتهم رهينة قرار غير شرعي، وغير خاضع للمساءلة. لقد بدأ الحلفاء يتنصلون. لا حباً بالدولة، بل إدراكاً أنّ زمن الحزب يتصدّع. الخطاب تغيّر، والشارع تغيّر، والإصطفاف تغيّر. أما الحزب، فما زال يصرّ على معادلاته القديمة، كمن يقاتل بسيف خشبي في زمن الطائرات المسيرة.

 

في لبنان، حيث كل شيء مؤجل، يبدو أنّ قرار الحكومة ليس عادياً. هو لحظة كسر دائرة مفرغة. للمرة الأولى، يُسند الجيش بمهمة إستراتيجية حقيقية: إنهاء الإزدواجية، وتوحيد السلاح تحت راية الدولة. الجيش نفسه، الذي طالما ظلّ في موقع المتفرّج، أو المحرج، أو المغلوب على أمره، يُطلب منه الآن أن يُنقذ الوطن من حالة الإنقسام الدائم.

لكن القرار وحده لا يكفي. فالحزب، الذي تمرّس على إمتصاص الضربات، سيحاول أن يلتف، أن يُراوغ، أن يُلبِس القديم ثوباً جديداً. سيُرسل الوسطاء، وسيهدد بالفوضى، وسيرفع أصوات «المظلومية». لكن شيئاً من هذه الأدوات لم يعد فعّالاً.

لم يعُد أحد مقتنع أنّ السلاح خارج الدولة «يحمي لبنان»، بل بات الكل يدرك أنّه يمنع قيام لبنان. لقد أعطتك الحرب فرصتك، أيّها الحزب. أعطِ الآن السلام فرصته. دع الدولة تقوم، بلا وصاية، بلا بنادق، بلا تهديد. فالحقيقة التي تأخّرت كثيراً، قد تكون وحدها بداية العدالة.. وبداية وطن.