«العري» تهمة.. والفن ضحية!

«العري» تهمة.. والفن ضحية!

  • ١٢ أيلول ٢٠٢٥
  • كاسندرا حمادة

عندما تتأمّل لوحة يتمثل فيها العري، أو تمرّ قرب تمثال نُحت جسده بلا حجاب، هل تتوقّف لتقول من رسم هذه اللوحة وكيف تجرّأ؟ أم متى رسمها وماذا وراءها!

من الرخام الناعم في حقبة الإغريق القدماء إلى بعض التشوهات في الأعمال المعاصرة المدفوعة بالذكاء الاصطناعي، ظلّ الجسد البشري العاري يحتلّ مكانة لا تُضاهى كأقدم موضوع فني وأكثره جدلاً.

حكاية «الفنّ العاري»، من تمثال «فينوس لفيلنادورف»، إلى سقف «كنيسة سكستين» الذي عرف في عصر النهضة، كأهم الأعمال الفنية لمايكل أنجلو، إلى ما توارثته الأجيال حتى اليوم من هذا الفن.

بالرغم من ذلك هناك من لا يراه فنّاً مرتقياً، فيرى فيه رذيلة وتشويه، وفق معطيات فكرية أم إجتماعية أو حتى سياسية تجري الأمور على أساسها.

هو شكل من أشكال التعبير الفنّي منذ ما قبل القرون الوسطى، يواجه في العام 2025 من القرن 21 التحريم والرفض تصل لحدود أعمال عنفية منها تحطيم تماثيل عارية على الرغم من أهميتها التراثية في بعض البلدان العربية اليوم، تحت مسمى «العيب الإجتماعي».

ففي جامعة دمشق مثلاً، منع رسم «الموديل العاري» في كلية الفنون، وهي معايير الرسم الأكاديمية التي نهج عليها التدريب الجامعي منذ قرون؟!وتحديداً في هذا النوع من الفن، بحيث لا يمكن الحكم عليه من منظور هذا العصر، لأنّه ليس وليد اليوم.

ففي بعض الحضارات القديمة كالحضارة الفرعونية في مصر، والآشوريين والبابليين في العراق، وُجدت بعض التماثيل والرسوم التي تُظهر الجسد البشري بقدر من العُري، ولكن ليس بالمعنى الإغريقي لـ«فن العُري» مثلاً، تماثيل الإلهة عشتار (في بلاد الرافدين) تظهر أحياناً مكشوفة الصدر، الجداريات المصرية أظهرت النساء بملابس شفافة أو شبه عارية.

إنّما هذه التعبيرات لم تُصنّف «فناً عارياً» بالمعنى الفني الحديث، بل كانت رموزاً دينية أو شعائرية. مع العلم، أنّ بداية فن العُري بشكل صريح في العالم العربي بدأت في القرن العشرين، مع ظهور الحركات الفنية الحديثة، ما بعد فترة الإستعمار.

 

وفي هذا الإطار، يؤكّد الدكتور لويس صليبا، الأستاذ المحاضر في علوم الأديان وتاريخها، وفي الدراسات الإسلامية، ومدير أبحاث ومشرف على أطروحات الدكتوراه في كلّية العلوم الدينية، والمعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اليسوعية في بيروت. إنّ العري قديم جدّاً في الفنّ، ولعلّه من عمر الإنسان العاقل ( Homo Sapiens)، فهذا ما تُظهره رسومات بعض الكهوف والمغاور القديمة.

 ففي الهند، على سبيل المثال، معابد عمرها آلالف السنين، نجد فيها رسومات ومنحوتات عارية، وهو ما نجده أيضاً في الحضارة اليونانية القديمة، وكذلك الرومانية وغيرها.

يضيف صليبا، يؤسس الفن التشكيلي خطابه الإستطيقي على أسبقية الإدراك البصري المباشر، متجاوزاً الوساطة اللغوية  والمعرفية العليا للقشرة الدماغية، فإنّه يستدعي إستجابات حسيّة - عاطفية أولية وخيالية، مرتبطة بالبنى العصبية الأكثر قدماً في الدماغ البشري.

هكذا ومنذ القدم، لا يزال للعري جانب أساسيّ في تحقق الأعمال الفنّية التشكيلية. ففي معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، وفي الأكاديمية اللبنانية للفنون (الألبا) كان هناك موظّفات تُدفع لهن رواتب شهرية ليعملن عارضات ويرسمهن الطلّاب عاريات، وهذا الجانب من الفنّ أساسي، ولا يمكن إلغاؤه أو شطبه بشحطة قلم.

 

يقول الفنان الفرنسي روبير دولوني الكبير أنّ «العُري هو أنقى أشكال التعبير الإنساني؛ ليس قناعاً، بل عودة إلى الجوهر»..

أما عن السؤال، هل يخدشُ العري في الفنّ الحياء؟ وهل يناقض الحشمة؟

يجيب د. صليبا، أنّه لا بدّ هنا من التمييز بين الزيّ أو الموضة ( La Mode ) وبين فنّ العري (  Le Nu)

فإذا قُصدت الحشمة، وطُلبت في الزي وفي  ما يلبسه الناس رجالاً ونساء في الشارع وسائر الأمكنة العامّة، فليس من المألوف ولا المقبول أن يمتدّ ذلك، وأن يفرض على الفنّ. فأن يُحرّم العري، ويُمنع في الفنّ التشكيلي، فهو إنقضاض على هذا الفن».

و«إذا كانت الحشمة حكمة كما يقول المثل العربي، وهي إحدى قيمنا، فالفن التشكيلي، بما فيه رسم العري، هو الآخر من هذه القيَم، وجزء من تراثنا وإرثنا الثقافي، ولا يجوز التخلّي عنه أو إلغاؤه»

وبعيداً عن القضايا التعليمية التي تتطلب موديلاً عارياً لإتقان رسم الجسم البشري، توفر الأشكال العارية، بحسب بعض البحوث والدراسات، أدوات تعبيرية مهمة للفنانين. يمكنها أن تُظهر البشر بطرق ذات قيمة فريدة. فالرسم العاري هو النقيض التام لشخصيات ترتدي معاطف واقية وقبعات ونظارات داكنة، ما يعني أنّ الفن في هذه الحالة يعكس كلّ اشكال الواقع، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الفن هو مرآة الواقع، فلماذا الخوف من العري؟

في هذه المساحة، يسمح للفنان أن يُظهر الأشخاص خارج سياق تاريخي معين إن رغب في ذلك. فوضع أي نوع من الملابس على شخص في لوحة أو تمثال تربطه فوراً بفترة زمنية حينما كانت تلك الملابس شائعة أو رائجة وليس في أوقات أخرى.إذ إنّ رسالة الفنان  تكون لجميع الأجيال تتخطى حدود الزمان والمكان.

 

من أهم المنحوتات عبر التاريخ: تمثال ديسكوبولوس (رَامِي القُرص) للفنان اليوناني ميرون، الذي يُعد من أوائل الأعمال التي أظهرت التوازن الديناميكي للجسم البشري. ثم جاء تمثال أبولو بلفيدير الذي اعتُبر نموذجاً مثالياً للجمال الذكوري في الفن الكلاسيكي.

مع عصر النهضة، جاء مايكل أنجلو ليبلغ هذا الفن ذروته في منحوتته الشهيرة موسى (1501–1504)، التي تمثل تجسيداً للجسد الكلاسيكي الذكوري المثالي؛ عضلات مشدودة، وقوام متناسق، ونظرة تحمل القوة والتأمل. كذلك رسم مايكل أنجلو الجسد العاري في لوحاته داخل كنيسة سيستينا، ولا سيما في مشهد خلق آدم، حيث تلتقي يد الإله بيد الإنسان في واحدة من أكثر اللحظات شهرة في تاريخ الفن الغربي.

 

يمكن القول أنّ فنّ العري يبقى مساحة شاسعة للتعبير البشري، تتجاوز الجسد إلى جوهر الإنسان وروحه. وبين من يراه تجسيداً   للحرية والجمال، ومن يعتبره خرقاً للحشمة، يبقى النقاش مفتوحاً ومعقّداً. ولكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، هي أنّ هذا الفن، على إختلاف أشكاله عبر العصور، شكّل مرآة للواقع الإنساني، وتاريخاً بصرياً لحضارات العالم.

وفي زمن الذكاء الإصطناعي حيث الآلة على طريق أخذ المبادرة في خلق الأشكال والصور، هل يجب أن نخشى فنّاً عمره من عمر الإنسان؟ أم أنّ علينا التمييز بين الإبتذال، وبين التعبير الفني النابع من عمق الشعور الإنساني؟