منهج توم برّاك.. جريمة بحق أوهامنا
منهج توم برّاك.. جريمة بحق أوهامنا
منذ سايكس - بيكو، لم تعُد الخريطة مرآة للواقع بل مهرباً منه. قوالب جاهزة لصبّ شعوب غير متجانسة داخل صناديق ضيقة، فالهدف لم يكن بناء أوطان، بل ضبط الإقليم جغرافياً لصالح مصالح القوى المنتصرة في الحرب.
فعل توم براك، المبعوث الأميركي الخاص إلى المنطقة، ما لا يجرؤ عليه كثيرون: قال الحقيقة التي يعرفها الجميع وينكرها الجميع. لا شرق أوسط، لا سلام، لا دول حقيقية، لا إستقرار ممكن في ظلّ أوهام الشرعية والهيمنة. كل ما هنالك هو فضاء مشحون بهويات تتصادم أكثر مما تتفاهم، وخرائط وُلِدت على طاولة مفاوضات إستعمارية، ثم رُفعت فوق رؤوس الناس كحقائق مقدسة.
«لم يكن هناك سلام قط. وربما لن يكون هناك سلام أبداً». جملته هذه ليست جملة لرواية صادمة، بل توصيف واقعي لمنطقة لم تختبر الإستقرار إلا كهدنة بين حربين، ولم تعرف التسويات إلا وتعود إلى الحرب. والحرب في الشرق الأوسط ليست إستثناء، بل القاعدة. لا تُخاض من أجل الحدود كما يتوهّم البعض، بل من أجل الشرعية، والهيمنة، والسيطرة الرمزية قبل أن تكون جغرافية. فالحدود، كما يقول براك، ليست سوى «عملة تفاوض»، تُرسم بالحبر وتُمحى بالدم.
منذ سايكس - بيكو، لم تعُد الخريطة مرآة للواقع بل مهرباً منه. البريطانيون والفرنسيون لم يؤسسوا دولاً، بل قوالب جاهزة لصبّ شعوب غير متجانسة داخل صناديق ضيقة، وسمّوها «دولاً قومية». لم يسأل أحد السكان: من أنتم؟ كيف تتفاعلون؟ ما هي هوياتكم الأعمق؟ ما معنى الوطن بالنسبة لكم؟ فالهدف لم يكن بناء أوطان، بل ضبط الإقليم جغرافياً لصالح مصالح القوى المنتصرة في الحرب.
منذ ذلك الحين، نشأت الدولة العربية الحديثة ليس كإطار إجتماعي توافقي، بل كأداة سيطرة. ومن هنا بدأ الزيف المؤسِس: إعتبار الدولة كياناً متماسكاً، له سيادة، وله «شعب» و«أمة»، بينما الواقع كان شيئاً آخر تماماً: قبائل، طوائف، عائلات ممتدة، شبكات قرابية، إنتماءات محلية، وذاكرة جمعية لم تعترف يوماً بهذه الخطوط المرسومة في السماء.
في وجه هذا التعدّد الطبيعي، جاءت القوميات العربية، البعثية، الناصرية، وحتى الإسلامية لاحقاً، لتفرض إجابة واحدة على سؤال الهوية: «نحن أمة واحدة ذات رسالة خالدة»، أو «خير أمة أُخرجت للناس». شعارات شوفينية صيغت بلغة رومانسية، لكنها كانت في جوهرها نزعات إقصائية. فمن لا ينتمي إلى «الأمة» كما رسمتها تلك الأيديولوجيات، يصبح مشبوهاً: إن لم تكن عربياً فأنت دخيل، إن لم تكن سنياً فأنت ضال، إن لم تكن شيعياً فأنت ناصبي، إن لم تكن قومياً فأنت إنفصالي، وهكذا.
النتيجة كانت كارثية: إختُزلت المجتمعات في هوية واحدة مصنّعة، واعتُبر التعدّد إنقساماً، والتنوّع تهديداً. وهذا ما ولّد أنظمة قمعية، سحقت الأقليات، وشيطنت المختلف، وأقامت منظومات أمنية لا تحمي المواطن بل تراقبه، ولا تصون الدولة بل تصون السلطة. لقد زرعت الشوفينية القومية في وجدان المنطقة مزيجاً من الكبرياء المرضي والإنكار الجماعي. شعوب بلا حقوق، لكنها مقتنعة بأنّها «خير أمة». خرائط فاشلة، لكنها مصنّفة «مقدسة». أنظمة منهارة، لكننا نغني لها في المهرجانات. دول بلا وظائف، لكن لها نشيد وطني وعيد استقلال.
توم براك يكشف ببساطة أنّ فكرة «الشرق الأوسط» ككيان سياسي موحّد هي خرافة إستعمارية. لا يمكن توحيد دول و 110 مكوّن عرقي وطائفي كما قال، وملايين الأفراد المختلفين في كل شيء، في موقف سياسي واحد. حتى في لحظات الإجماع الظاهري، كقضية فلسطين، كانت كل دولة تقاتل بطريقتها، وكل فصيل ينسف الآخر، حتى تحوّلت القضية نفسها إلى مسرح تصفية حسابات.
ما لا يريد كثيرون الإعتراف به أنّ «الدولة» في الشرق الأوسط لم تُبْنَ من الأسفل، من المجتمع، بل فُرضت من الأعلى. براك يذكرنا أنّ التراتب في هذه المجتمعات يبدأ بالفرد، ثم العائلة، فالقرية، فالقبيلة، ثم الدين، وأخيراً، بالكاد، الدولة. أي أنّ الدولة القومية هنا تسبح عكس التيار الأنثروبولوجي. هي كائن دخيل، لا يعيش إلا بالقوة أو الريع أو الرعب.
يقول براك: «الازدهار هو الحل الوحيد». في ظاهره، يبدو طرحاً براغماتياً. حين تعجز الأيديولوجيا عن بناء وحدة سياسية، فربما تنجح المصالح الإقتصادية. لكن هل يكفي الإزدهار لإنقاذ منطقة لا تزال ترى في الطائفة ضمانة، وفي العشيرة حصناً، وفي السلطة غنيمة؟ الجواب ليس سهلاً. فالإزدهار لا يصنع ثقافة سياسية، بل قد يعمّق الإنقسام إذا لم يسبقه إصلاح هيكلي في معنى الدولة ومفهوم المواطنة. وكل إزدهار اقتصادي لا يرتكز على عقد إجتماعي واضح، سينتهي كقنبلة موقوتة، كما رأينا في لبنان، وسوريا قبل الحرب، والعراق بعد النفط.
ما قاله توم براك يجب أن يُطبع، ويُشرح، ويُناقش، بل يُدرَّس في كليات العلوم السياسية في جامعات العالم العربي، لا كحقيقة نهائية، بل كنقطة إنطلاق لفهم الواقع لا إنكاره. كلامه يصلح ليكون مدخلاً صريحاً لطلاب العلاقات الدولية لفهم كيف تصطدم النظرية بالواقع، وكيف تتحوّل مفاهيم مثل «الدولة»، و«الشرعية»، و«السيادة» إلى مجرد شعارات جوفاء في منطقة تُدار بمنطق العشيرة والولاء والغلبة.
ففي عالم أكاديمي يضج بالنماذج الغربية، يذكّرنا براك أنّ للشرق الأوسط منطقه الخاص، وتاريخه المقطّع، وهوياته المعقدة، وأنّ تحليله يتطلب أدوات مغايرة، وشجاعة فكرية أعلى. وهنا تكمن أهميته، لا كمبعوث سياسي، بل كقاتل للأوهام الشعبية المنتشرة عندنا.
ما فعله توم براك في تصاريحه الأخيرة هو حمل نبوءة خاصة للشرق الأوسط، بعد أن اعتاد العيش في الظلال. ما قاله ليس جديداً، لكنه صدم الجميع لأنّه قيل علناً، وبلغة مباشرة، بلا «رتوش» دبلوماسية وكلمات منمقة. لقد مزّق الخطاب الرسمي وأعادنا إلى السؤال الأول: من نحن؟ ماذا نريد؟ هل يمكن لدولة أن تقوم على الإنكار؟ وهل يمكن لشعوب أن تنهض وهي سجينة خرافاتها؟
لقد انتهى زمن التظاهر بالقوة. لا الجيوش انتصرت، ولا الشعارات أقنعت، ولا الخرائط صمدت. بقيت الحقيقة: نحن نعيش في ما بعد إنهيار سايكس - بيكو، لكننا نرفض الإعتراف بذلك. ندفن الدولة كل يوم، ثم نضع على قبرها علم الوطن ونغني نشيدها. لكن توم باراك قالها «لا سلام في الشرق الأوسط». لا لأنّ الحرب قدر، بل لأنّ الكذبة لا يمكن أن تصنع وطناً.