زيارة البابا تُسقط أكذوبة الـ«١٩٪»

زيارة البابا تُسقط أكذوبة الـ«١٩٪»

  • ٠٤ كانون الأول ٢٠٢٥
  • أنطوني سعد

مشهد شعبي حيّ، وحضور كنسي ثابت، وخطاب فاتيكاني يذكّر، وفاعلية سياسية وثقافية، ودور لا يمكن شطبه بعبارة أو رقم. المسيحيون ليسوا رقماً، بل ركن في هوية لبنان لا يُختزل بحسابات المصالح.

لم تولد سردية «المسيحيون 19٪ فقط» من فراغ. فمنذ اللحظة التي قال فيها رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي عبارته الشهيرة، إنطلقت ماكينة كاملة تعمل في العلن والظلّ لتحويل رقم بلا أساس إلى «حقيقة وطنية» تُستخدم في مهاجمة كل نقاش يتعلّق بالمناصفة، بالدور المسيحي، وبموقع لبنان التاريخي كوطن تعدّدي نشأت صيغته على التوازن لا على الإلغاء.

ومثل كل رواية وُلدت بهدف سياسي لا ديموغرافي، وجد هذا الرقم طريقه سريعاً إلى السوشال ميديا. فالبعض إستخدمه كذريعة لتقزيم الدور المسيحي، والبعض الآخر استعمله لتخويف المسيحيين أنفسهم من مستقبل يُراد لهم أن يشعروا فيه بأنّهم «جماعة مندثرة»، فيما فئة ثالثة حاولت عبره إعادة رسم صورة لبنان ككيان جديد لا يشبه الكيان الذي وُلد عام 1920. 

لكن ما سقط سهواً أو جرى إخفاؤه عمداً هو حقيقة الأرقام التي تكشفها دراسة سكانية دقيقة للهيئة الناخبة المقيمة، ولكل الفئات العمرية دون الحادية والعشرين. فحين تُستخرج الأرقام بعيداً عن الضجيج، يظهر أنّ المسيحيين يشكّلون اليوم ما يقارب واحداً وثلاثين فاصل سبعة في المئة من السكان المقيمين، أي ما يقارب مليوناً وتسعمئة ألف لبنانياً.

هؤلاء ليسوا «أقلية متلاشية» ولا «كتلة رمزية»، بل طرف أساسي من الخريطة الديموغرافية، يكاد حجمه يوازي حجم المسلمين السنّة، ويتقدّم عليهم بعد إزالة أثر المغتربين الذين يميل قسم كبير منهم إلى الهجرة الدائمة لا الإقامة.

ومع ذلك، بقيت عبارة ميقاتي تتردد طويلاً، كأنّها محاولة لفرض إطار نظري يسبق أي نقاش وطني. فحين يقتنع الناس أنّ المسيحيين «19٪» يصبح النقاش حول الهجرة، والتمثيل، والوجود الجغرافي، والقرار السياسي مجرّد جدل على هامش حقيقة مفترضة.

لكن ما لم يتوقّعه أحد هو أن تنسف زيارة البابا هذه السردية بضربة واحدة، وأن يتحول إستقبال الشعوب إلى أكبر إحصاء ميداني منذ عقود.

ففي ذلك النهار الذي بدا أنْه مرسوم بعناية بين العاصفة الديبلوماسية من جهة، والتوتر الأمني من جهة أخرى، خرجت الحشود المسيحية إلى الطرقات من جونية إلى بكركي، ومن بيروت إلى المتن وكسروان وزحلة وجبيل وعمشيت وتنورين.

لم تكن الجموع مجرد إنعكاس لحدث ديني، بل عودة قوية إلى المجال العام، أشبه بصرخة شعبية تقول إنّ الرواية التي حاولت إقصاء المسيحيين من المشهد لم تكن سوى وهم رقمي لا يصمد أمام المشهد البشري.

كان المشهد واضحاً إلى حدّ جعل كل المحاولات الرقمية التي بُنيت على رقم «19%» تفقد قيمتها في لحظة واحدة. فمن يستطيع تفسير خروج مئات آلاف الأشخاص إذا كانوا بالفعل بالكاد يشكّلون خُمس البلاد؟ ومن يمكنه الإصرار على سردية التراجع فيما الشوارع إنفجرت بالوجود الحيّ الذي لا يمكن تزويره أو تجاهله؟

إنّ زيارة البابا لم تغيّر فقط المزاج المسيحي، بل أعادت الربط بين الوجدان المسيحي ودوره الوطني، وأظهرت أنّ أكبر خطأ ارتُكب كان محاولة تحويل جماعة كاملة إلى رقم صغير لإضعاف حضورها المعنوي والسياسي.

ولم يكن مفاجئاً أن تبدأ هذه الزيارة بإعادة تشكيل النقاش العام، إذ أدرك كثيرون أنّ الكلام عن «الأقلية» لا ينسجم مع بلد تتشارك فيه الجماعات بنسب متقاربة، وأنّ الرقم الحقيقيواحد وثلاثون في المئة وسبعة أعشاريفرض على أي سلطة سياسية أن تحسب بدقة قبل إطلاق مقولة قد تتحول إلى سلاح بوجه صيغة لبنان نفسها.

ولعلّ المفارقة الكبرى هي أنّ الرقم الخاطئ الذي قيل على عجل تحوّل إلى مناسبة لإعادة فتح النقاش الحقيقي حول الوجود المسيحي، لا من باب الخوف بل من باب إستعادة الثقة. فالمشهد الشعبي الذي رافق زيارة البابا لم يكن مجرد إحتفال، بل إعلاناً واضحاً أنّ محاولة تقليص الحضور المسيحي فشلت، وأنّ لبنان الحقيقي لا يزال أوسع من الأرقام الملفّقة ومن الحسابات التي تُبنى على وهم لا على واقع.

 

وهكذا، تماماً كما فاجأت زيارة البابا من ظنّ أن المسيحيين تراجعوا إلى حدود رقم سياسي مخترع، قد تفاجئ الحقائق الجديدة كل من حاول تصوير لبنان كبلد انتهت فيه التعدّدية. فالصيغة لا تزال قائمة، والوجود المسيحي لا يزال جزءاً أساسياً من روحية البلد، وأكبر دليل على ذلك لم يكن ورقة أو نسبة أو تقريراً، بل ذلك البحر البشري الذي غمر الطرقات وقال بصوت واحد إنّ الهوية لا تُختزل برقم، وإنّ لبنان الذي حاول البعض إعادة كتابته على أساس حسابات ضيقة لا يشبه لبنان الذي لا يزال ينبض في الشارع.