"حصار مالي ومعنوي": من يريد دفن قانون الشراء العام في لبنان؟
"حصار مالي ومعنوي": من يريد دفن قانون الشراء العام في لبنان؟
تسير المنظومة في لبنان كالسلحفاة على سكة الإصلاح، وكالأرنب على سكة تعطيله. وجديدها، عدم الإكتفاء بتسويف إقرار الإصلاحات، بل الذهاب لتعطيل ما أقرّ منها بضغط من المجتمع الدولي بعد انهيار عام 2019. وأبرز ضحايا التعطيل، "هيئة الشراء العام"، وهي أهم هيئة رقابية بعملية الإصلاح، إذ تضطلع بالتنظيم والإشراف ومراقبة جميع عمليات الشراء العام، أي 20% من الإنفاق المركزي، فيما عدم إطلاق يديها إلى الآن، يطمئن السلطة لناحية استمرارية مزاريب هدر المال العمومي من بوابة الصفقات العمومية.
فرغم إقرار الهيئة بمشروع قانون الشراء العام رقم 2021/244، ونشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 29/7/2021، ما زالت الهيئة غير قادرة على تغطية جميع عمليات الشراء، لاحتجاز مراسيمها التنظيمية في الحكومة، منذ أكثر من عامين ونصف على إرسالها من قبل رئيس الهيئة جان العلية لإقرارها، في تجاوز صارخ للمهلة المحددة قانونا بإقرارها خلال شهرين كحد أقصى من تاريخ إرسالها.
وتُحتجز المراسيم تحديداً لدى رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي، التي يتوقف دورها على "إبداء الرأي" الاستشاريّ بالمراسيم. مشموشي، التي لم تجب على اتصالات "بيروت تايم" المتكررة للاستيضاح منها، تتقاطع مصادر مطلعة، حول "ضغوط سياسية" تتعرض لها لإبقاء المراسيم أطول فترة لديها.
إلا أن هيئة الشراء العام لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام "الحصار الذي نتعرض له بتعطيل مراسيم الهيئة والذي نضعه في خانة تفشيل فرصة التحول من إدارة المناقصات التي تغطي 5% فقط من عمليات الشراء العام، إلى 100% منه".
عدسة بيروت تايم التي جالت داخل مكاتب الهيئة، وثقت الحصار بصورة. فـ6 موظفين فقط هم المولجون اليوم بمراقبة وتنظيم عمليات الشراء العام في كل لبنان في ظل عدم القدرة على توظيف قرابة 90 آخرين أو صرف ليرة من ميزانية الهيئة البالغة 18 مليار ليرة بشكل قانوني، قبل إصدار المراسيم التنظيمية التي تشمل نظام الموظفين والنظام المالي والإداريّ، وتطلق عمل الهيئة.
الإبقاء على إدارة المناقصات
الشراء العام، الذي وعد لبنان بتطويره خلال مؤتمر سيدر عام 2018، كأهم الإصلاحات "العابرة للقطاعات"، وأقرّ عام 2021، جاء ليطوّر وفق المادة 88 منه، الجهاز الوظيفي الرقابي المعروف بـ "إدارة المناقصات" التابعة للتفتيش المركزي، لتصبح هيئة مستقلة بذاتها هي "هيئة الشراء العام"، في تحول إصلاحي شأنه مكافحة الفساد المتأتي من عمليات الشراء العام.
لكن للسلطة في لبنان حسبة أخرى، تريد بها الإبقاء على صلاحيات للهيئة، لا تتجاوز تلك التي أضطلعت بها إدارة المناقصات، وهنا نسرد بعضاً من مستويات التحول، وأهميته، وأسباب التعطيل...
فمن إدارة المناقصات التي تضطلع بالمناقصات العامة واستدراجات العروض في "الادارات العامة" حصرا والتي لا تتخطى 5% من عمليات الشراء العام، إلى "هيئة الشراء العام"، المضطلعة بالرقابة على 100% من عمليات الشراء العام، أصبحت مهام الهيئة اليوم على الشكل التالي: التنظيم والإشراف والرقابة على عمليات الشراء في: 30 وزارة إضافة للمؤسسات العسكرية، 100 مؤسسة عامة بما فيها مصالح المياه، 1155 بلدية عدا عن اتحادات البلديات، الهيئات المستقلة (الهيئة العليا للإغاثة) وصناديق المهجرين والجنوب ومجلس الإنماء والإعمار، وشركتي الخليوي ألفا وتاتش والجامعة اللبنانية ومؤسسة كهرباء لبنان، وصولاً لمصرف لبنان...
هذا التحول لا يخيف السلطة على مستوى الشمولية والرقابة وحسب. بل على مستوى "الصلاحيات" المعطاة للهيئة، عبر التحول من "رأي غير ملزم" لإدارة المناقصات، إلى إمكانية "وقف إجراءات الشراء عند وجود أي خلل" الممنوحة لهيئة الشراء العامّ.
أما التطور التكنولوجي، المتمثل بإدارة وتشغيل المنصة الإلكترونية المركزية للشراء العام والشراء الالكتروني، توخياً للشفافية والنزاهة والعلنية والمنافسة عبر نشر جميع عمليات الشراء العام، فهو اليوم على المحكّ، ويعيقه تعطيل أنظمة الهيئة المالية والإدارية ونظام الموظفين.
والسؤال اليوم: كيف احتجزت المراسيم التنظيمية لعامين ونصف في الحكومة؟
ضغوط سياسية
وتكشف المادة 87 من قانون الشراء العام، ماهية التعطيل، حيث تنص على أنه "تضع الهيئة نظامها الداخلي والأنظمة الإدارية والمالية وأنظمة العاملين لديها، بعد استشارة مجلس الخدمة المدنية ومجلس شورى الدولة، في مهلة أقصاها ثلاثة أشهر من تاريخ إنشائها، على أن تصدر بموجب مراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء، وذلك خلال مهلة أقصاها شهران من تاريخ إحالة مشاريع المراسيم إليه من قبل الهيئة".
هكذا إذاً، يُعلّق إصدار المراسيم التنظيمية، التي وضعت أساساً لإنفاذ القانون لا عرقلته، لدى مجلس الخدمة المناط به إبداء رأي استشاري لا إقرار الأنظمة، وهو ما يكشف بدوره عن ضغط سياسيّ على مشموشي وفق ما تفيد مصادر متقاطعة لبيروت تايم، حيث استحال دور مشموشي "أداة" لتطبيق مفاعيل التعطيل!
وأنظمة الهيئة ضرورية بل وحاسمة لقدرة الهيئة على القيام بمهامها. في السياق، توضح مصادر الهيئة في حديث لـ"بيروت تايم"، أنها لا تعلم حتى تاريخه "أي شيء عن مصير هذه الأنظمة".
وتذكّر المصادر بأن الهيئة التزمت من جهتها بنص المادة 87 من قانون الشراء العام، فوضعت أنظمة الهيئة في مهلة أقصاها 3 أشهر من تاريخ إنشائها، وأرسلتها إلى المراجع المختصة".
أما عدم إصدار المراسيم من قبل الحكومة ضمن المهلة المحددة قانونا والاستمرار باحتجازها في مجلس الخدمة، فتضعه المصادر في خانة "محاصرة الهيئة"، بهدف عدم تمكينها من القيام بالمهام الـ25 المناطة بها بمقتضى المادة 76 من قانون الشراء العام، والتي من دونها "لا تتحقق أهداف الهيئة".
ولعل الهدف الأسمى للهيئة غير القادرة على تلبيته اليوم، هو شمولية تغطية حاجات الجهات الشارية على الأراضي اللبنانية كافة، والذي يضاف إليه تعطيل مهام حاسمة أخرى للهيئة: كمراقبة وتقييم تطبيق النصوص القانونية والقواعد التي ترعى الشراء العام، التحقق من مؤهلات أعضاء لجان التلزيم والاستسلام لدى الجهات الشارية، واقتراح أنظمة لتطبيق التدقيق الداخلي فيما يتعلق بإجراءات الشراء وعملياته لدى الجهات الشارية.
محاصرة معنوية مالية ونفسية
18 مليار ليرة محتجزة
ووفق المادة 88 من قانون الشراء العام، "تلغى إدارة المناقصات وتنقل ملاكاتها والعاملون فيها إلى هيئة الشراء العام" على أن "يكون مدير عام إدارة المناقصات رئيسا للهيئة، كما يكون الموظفون والمتعاقدون والأجراء الحاليون في إدارة المناقصات من ضمن الهيكل الإداري لهيئة الشراء العام".
المعضلة اليوم تكمن بأن التحول إلى هيئة الشراء العامّ، أبقى على الهيكل الإداري لـ 6 موظفين كان مناطا بهم مراقبة 5% فقط من عمليات الشراء العام، دون تعيين موظفين جدد لضمان تغطية 100% من عمليات الشراء، وهو ما يتطلب التوظيف أو التعاقد مع 90 موظفا آخر. المتوقف عند استصدار المراسيم التنظيمية، التي تشمل قانون الموظفين.
و"الحصار" يمتدّ ليشمل الضغط النفسيّ على الموظفين، بدءا من سؤالهم عن وضعهم القانونيّ في ظل عدم استصدار نظام الموظفين للهيئة، وصولا لظروف عملهم فيها.
إذ يمكن استشفاف قدر اهتمام السلطة بالهيئات الرقابية، من المساحة المعطاة لهيئة الشراء العام: وهي شقة صغيرة في أحد طوابق مبنى التفتيش المركزي.
والمهانة تمتدّ لظروف وظيفية "مهينة" للموظفين نتيجة عدم القدرة على صرف موازنتها، لتصبح القرطاسية والصيانة بل وتنظيف دورات المياه، على نفقة الموظفين، في حين "يُستعطف" التفتيش المركزي، ليسدد فواتير المولد والإنارة.
إلا أن "المحاصرة" الأكبر تتمثل بعدم إقرار النظام المالي من ضمن المراسيم التنظيمية، والذي يمنع الهيئة من الصرف من موازنتها البالغة 18 مليار ليرة، وينعكس انعداما لقدرتها على صرف النفقات التي تشغل المنصة الالكترونية للشراء وتضمن تحقيق مهامها الرقابية والتنظيمية وتلبية حاجات الجهات الشارية.
لن نبقى صامتين
غضب الموظفين على واقع حرمانهم من أبسط حقوقهم التي كرستها المادة 88 من قانون الشراء العام، عبّر عنه أحد الموظفين لـ"بيروت تايم" أثناء جولتنا في الهيئة بقوله: هل يجوز لموظف في لبنان مهما علا شأنه ان يعطل تطبيق القانون؟
وأمام هذا الحصار المالي والمعنوي والكميّ لعدد الموظفين، تحذر مصادر الهيئة من أنّها لن تبقى مكتوفة الأيدي. وتوضح لـ"بيروت تايم"، أن فترة السّماح التي أعطتها لبتّ هذا الموضوع شارفت على نهايتها، ولن نسمح لأحد بأن يأخذ من هيئة الشراء العام ما أعطاها إياه القانون وإذا لم تتم معالجة المشكلة بالشكل الذي نصّ عليه القانون فستلجأ إلى كافة التحركات بكل الأطر القانونية والدستورية لمنع شل عمل هيئة الشراء العام عبر احتجاز أنظمتها ومحاصرتها بأراء لا صلة لها بالقانون. فالنص أعطانا الأنظمة، وهي ليست منة من أحد، ونريد هذه الانظمة لنقوم بعملنا. أما وضع المعاملات في الجاورير لسنوات فهذا انتماء إلى غير الإدارة".
وترى المصادر باحتجاز المراسيم أبعد من مجرد تعطيل، فالهدف النهائي برأيها هو الإبقاء على نظام المناقصات القديم. "لكننا أخذنا التحدي على عاتقنا، ونطبق قانون الشراء العام منذ إقراره وفق إمكانياتنا، ولن نستسلم حتى لو كان عملنا بمثابة نقطة في محيط.
الحكومة تلتزم الصمت
النائب ابراهيم منيمنة قدّم سؤالا للحكومة بكامل أعضائها في 3/8/2023 بشأن المعوقات التي تمنع استصدار المراسيم التنظيمية على الرغم من دخول القانون حيز التنفيذ. ومنذ آب الماضي، لا إجابة حكومية على سؤاله، وهو ما يؤكد على أن أصل التعطيل حكومي، ولو تم تحميله لمشموشي.
منيمنة بدوره، يرى في حديثه لـ"بيروت تايم" بأن الإبقاء على الوضع القديم دون إقرار مراسيم الهيئة غير قانوني، هو يعكس انعدام الجدية السياسية بالتحول لهيئة الشراء العام، بدلالة أن الحكومة لم تجبنا إلى الآن على سؤالنا.
ويضيف، فلو كانت السلطة جدية بهذا التحول، لأعطيت الهيئة أولوية وبت بمراسيمها مباشرة لتصبح فاعلة بكامل قدرتها التي منحها إياها القانون، فيما الواقع عكس ذلك، فكل أساليب البيروقراطية تمارس لإعاقة تفعيلها، وهذا ليس مستغربا على المنظومة التي تخشى الهيئات الرقابية.
في المقابل، يضيء منيمنة على إشكالية عجزنا كنواب على محاسبة الحكومة على هذه العرقلة. فهي حكومة تصريف أعمال، وهو ما جعلها "آخذة مجدها"، ليس بتخطي المهل القانونية لاستصدار المراسيم للهيئات التي من شأنها مكافحة الفساد وحسب، بل أيضا بعدم الإجابة عن أسئلتنا، لإدراكها بأننا غير قادرين على محاسبتها إن بسحب الثقة منها كونها حكومة مستقيلة، أو حتى باستدعاء الوزراء المعنيين للاستجواب، وهو ما يأخذنا إلى الإشكالية الأكبر، وهي عدم انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة أصيلة نقدر على محاسبتها.
دفن القانون في مهده
هيئة الشراء العام من قبلها، آخذة بالتصعيد، وتكشف مصادرها عبر بيروت تايم أنها ذاهبة لمصارحة الرأي العام بتفاصيل "الحصار غير المبرر" في الوقت المناسب، وستعرض في تقريرها السنويّ، ما تحقق في فترة وجيزة من حجم عملها رغم الحصار.
وتكمن أهمية هيئة الشراء العام بأنها هيئة رقابية مسبقة على الوزارات وجميع المؤسسات العامة التي يطالب اللبنانيون بالتدقيق الجنائي فيها لتسبب الفساد فيها بالانهيار، وفي مقدمتها، مصرف لبنان المركزيّ.
وهنا تصبح معركة اللبنانيين مضاعفة: فإذا كان المطلوب هو "دفن" قانون الشراء العام في مهده، فهذا يعني عصرا جديدا من السرقات والهدر، واستكمالا لسياسة "عفى الله عما مضى"، بسياسة "عفى الله عما سيأتي"....