الجامعة اللبنانية.. بوابة العمل السياسي والديمقراطي

الجامعة اللبنانية.. بوابة العمل السياسي والديمقراطي

  • ٢٠ آذار ٢٠٢٤
  • غادة حدّاد

قبل قيام الجمهورية اللبنانية، كان التعليم في لبنان حكراً على الأثرياء، وكانت الجامعات تابعة لمؤسسات إرسالية خاصة . تأسست في حقبتين، الحقبة الأولى خلال الحكم العثماني (1651 – 1918)، والثانية خلال الإنتداب الفرنسي (1920 – 1943)، أولها الجامعة الأميركية التي تأسست عام 1866، بإسم «الكلية السورية الإنجيلية»، وبعدها جامعة القديس يوسف عام 1881.

تأسيس الجامعة اللبنانية، كان وليد حراك شعبي وطالبي كبير سُجلت إنطلاقته في 23 كانون الثاني سنة 1951، حتى صدور المرسوم التنظيمي سنة 1959 ونّصّ في مادته الأولى «أنّ الجامعة اللبنانية مؤسسة تقوم بمهام التعليم العالي الرسمي بمختلف فروعه ودرجاته..»

ما قبل الخمسينات، على الصعيد الرسمي، تطرّق رئيس الحكومة رياض الصلح، في البيان الوزاري الأول لدولة لبنان الكبير، في 7 تشرين الأول 1943، الى إنشاء الجامعة اللبنانية، إلى جانب فرض التعليم الإلزامي، خاصة في المرحلة الإبتدائية. وفي ختام مؤتمر الأونيسكو، الذي إنعقد في بيروت في 10 كانون الأول 1948، قال وزير التربية والخارجية حميد فرنجية «لبنان يأمل أن يرى في هذا المكان جامعة لبنانية تكون روحها روح الأونيسكو». وعلى هامش المؤتمر، طالب النائب كمال جنبلاط بإنشاء الجامعة اللبنانية، وأيّده عضو كتلة الجبهة الوطنية الإشتراكية كميل شمعون.

المحطة المفصلية كانت بتأسيس «إتحاد طلاب لبنان» عام 1948، وأهميته أنّه أول حركة طلابية مطلبية منظمة، وعقد مؤتمره الأول بشكلٍ سريّ، لعدم إعتراف الدولة به. بُحث في الإجتماع الأول إنتخاب رئيس للإتحاد، وإقرار برنامج تربوي، والمطالبة بإلزامية التعليم الإبتدائي المجانيً، وتأسيس مدارس ثانوية رسمية، وإنشاء الجامعة اللبنانية. ترأس الإتحاد لأول مرة فرج الله حنين، ولاحقاً أطلق المؤرخ عصام خليفة على الإتحاد لقب «القوة الضاربة» لتأثيره في الحياة السياسية والمطلبية.

ولوحق العديد من أعضاء الإتحاد، بسبب مواقفهم السياسية، خاصة ضدّ دول الحلفاء، وإتهامهم السلطة السياسية بالإنحياز المعلن إلى المدارس الخاصة والإرساليات، والجامعات الأجنبية، التي كانت من أشد محاربيّ تأسيس الجامعة اللبنانية، وسُجن فرج الله حنين مرات عدّة. 

أصدرت لجنة التربية النيابية توصية بإنشاء الجامعة اللبنانية، في 16 كانون الأول 1950، وفقاً لمعايير ومناهج وقوانين منظمة الأونيسكو، على أن تخصّص لها مبانٍ منظمة، بعد وضعها في تصرّف وزارة التربية الوطنية. وبات يعتبر هذا تاريخ تأسيس الجامعة، قبل صدور المرسوم التنظيمي للجامعة.

نتيجة المماطلة في التنفيذ، أعلن طلاب ثانويون وجامعيون أكثرهم من جامعة القديس يوسف الإضراب العام المفتوح، صباح 23 كانون الثاني 1951، وخرجوا ا في تظاهرة بدعوة من «إتحاد طلاب لبنان»، من أمام حرم كلية العلوم الطبية في الجامعة اليسوعية بإتجاه ساحة الشهداء، رُفع خلالها شعار «لا إستقلال حقيقي من دون تعليم وطني جامعي»، ترأس التظاهرة رئيس الإتحاد يومها، طالب الحقوق في الجامعة اليسوعية، فرج الله حنين. وقد واجهتهم السلطة بالقمع، وحدثت مواجهات مع القوى الأمنية، أدت الى سقوط عدد من الجرحى من بينهم حنين، والذي توفي متأثراً بجروحه، في 13 حزيران 1951، ليصبح رمزاً للحركة الطلابية اللبنانية، وأول شهيد للجامعة اللبنانية.

على إثر قمع تحركات الطلاب، وضغط الرأي العام، عبر النقابات والأحزاب والإعلام، عقدت جلسة لمجلس الوزراء، في 5 شباط 1951، وأُقرّ إنشاء الجامعة اللبنانية. ولأنّ قرارات الحكومة أغفلت مطالب تعميم التعليم الإبتدائي والثانوي. إستمرت ضغوط الإتحاد الطلابي، الى أن تمّ الإعلان عن تدشين «دار المعلمين العليا»، في تشرين الأول 1951. وفي شباط 1953 إستُحدث «معهد الإدارة والمال»، وتمّ إبدال إسم «دار المعلمين العليا» بـ «معهد المعلمين العالي». بقي الوضع في الجامعة اللبنانية مقتصراً على النواة المذكورة، حتّى صدور مرسوم الجامعة التنظيمي رقم 2883 سنة 1959، في عهد الرئيس فؤاد شهاب.

تأسست بموجبه 4 كليات في الجامعة اللبنانية، الآداب والعلوم والحقوق والعلوم الإجتماعية، وبقيت الكليات التطبيقية، الطب والهندسة، خارج الجامعة اللبنانية، وحكراً لمن يمكنه تحمّل تكاليف التعليم في الجامعة الأميركية واليسوعية والعربية. الأمر الذي حرّك تظاهرات منذ ستينيات القرن الماضي، أفضت في 23 آذار 1965 إلى تأسيس الكليات التطبيقية. 

عند إندلاع الحرب الأهلية، إتخذ رئيس الجمهورية السابق الياس سركيس قراراً بحل الإتحاد الطلابي، في محاولة لتقييد الحركة الطلابية. ثم تتالت الضربات على الجامعة، عبر تفريعها في المناطق.

وبحسب كتاب «قضايا الجامعة اللبنانية وإصلاحها»، لمجموعة من الباحثين (عدنان الأمين، أحمد بيضون، ملحم شاوول، أنطوان حداد، وخليل نورالدين)، صدر قرار عام 1977، قضى بتعطيل مجلس الجامعة والمجالس التمثيلية والإتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية. ومهّد الطريق للتدخّل السياسي والطائفي على المجالس الطلابية وقرار الجامعة الإداري. 

بعد إنتهاء الحرب الأهلية، تعرضت الجامعة اللبنانية لتهميش ممنهج، ضمن القرارات التي أدت إلى تدمير القطاع العام، أبرزها القرار رقم 42 الصادر، في 19 آذار 1997، أثناء فترة رئاسة د. أسعد دياب للجامعة. الذي نصّ بنقل صلاحية التفرّغ في الجامعة من إدارتها إلى مجلس الوزراء، مما أدى إلى ضرب إستقلالية الجامعة وخاصة قراراتها الأكاديمية.

وفي ضوء هذا القرار، إنتقلت صلاحية تعيين الأساتذة من إدارة الجامعة إلى الوزراء. بالتالي، تمّ تجاوز الإعتبارات الأكاديمية والإحتياجات في عملية تعيين الأساتذة، وأصبح القرار بالتعيين يُتخذ بناءً على إعتبارات سياسية، وليس بناءً على الكفاءة أو على إحتياجات الجامعة. وتحوّل التفرّغ في الجامعة إلى أحد منابع المحسوبيات والتوظيف السياسي.

إميل شاهين، الباحث الراحل وأحد أبرز وجوه الحركة الطلابية، قضى حياته في النضال من أجل الحفاظ على الجامعة اللبنانية. في خطابه بمناسبة الذكرى الـ 59 لتوصية اللجنة البرلمانية التربوية بإنشاء جامعة لبنانية، قال: «إنّ الطلاب قد ناضلوا وضحوا من أجل تأسيس الجامعة اللبنانية. وإستشهد القائد فرج الله حنين في سبيل تثبيت وإطلاق نواتها الأولى دار المعلمين العليا، وفي العام 1953 وقفوا بوجه كلّ التحديات وفرضوا تطوير الجامعة وتوسيعها وبناء مدينتها الجامعية».

يتعدى دور الجامعة اللبنانية مجرد كونها مؤسسة تعليمية، إستقطبت أوسع شريحة من الشباب اللبناني، بل هي المساحة التي أعطت الحقّ للطبقة الوسطى والفقيرة بالتحصيل العلمي العالي، وإيجاد فرص عمل لائقة، والإرتقاء الإجتماعي. وأنّها مساحة لتبادل الأفكار والتجارب، بين مختلف المناطق والطوائف، وتقسيمها إلى فروع مناطقية، أدى الى الغلبة الطائفية والأحادية في التفكير، فحورب إقتراح توحيد الفروع الجامعية في خمس مجمعات كبيرة، ومنعت الحياة السياسية، وتوقفت الإنتخابات الطلابية، ليبقى الفرز الطائفي والسياسي التقليدي متوارثاً. وسُلب الحقّ في التعلّم، وتبعه ضمناً سلب الحق في التفكير، والحوار، والتنوّع، والعمل السياسي، والإعتراض والإحتجاج، وهيمنت عليها الصراعات الحزبية الضيقة البعيدة عن الهم الأكاديمي.