مئة عام من الانهيار (2)

مئة عام من الانهيار (2)

  • ٠٦ نيسان ٢٠٢٤
  • غادة حدّاد

في بحث لتوالي الازمات في لبنان، حاولنا وضع يدنا على الحجر أساس لإنهيارنا اليوم. عدنا مئة عام إلى الوراء، إلى أبرز الازمات المتكررة، وإذ بنا ندور في دوامة من فراغ الاقتصادي، ينعم فيها 10 في المئة من التجار والمحتكرين والمحظيين، بثروات المجتمع على حساب الـ 90 في المئة الاخرين، بعد أن فقدوا ماضيهم وحاضرهم، ومستقبلهم.


ازمة الثمانينيات: عام 1985 شهد لبنان موجة تضخم كبيرة وصلت إلى 487%، وتدهور في سعر الصرف من 2.43 ليرة عام 1975 إلى 18.1 ليرة عام 1985. وشهدت العملة مضاربات كثيرة، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار والمواد الغذائيّة والاستهلاكيّة الضروريّة، وبلغ معدّل التضخّم أعلى مستوى له عام 1987، مع وصول الدولار إلى 455 ليرة نهاية هذا العام. وانخفض الحدّ الأدنى للأجور من 243 دولار سنة 1982، أيّ 925 ليرة، إلى 81 دولاراً عام 1985، أيّ 1475 ليرة، على الرغم من تصحيح الأجور 4 مرات. وانخفض احتياط مصرف لبنان من 3 مليارات دولار عام 1982، إلى حوالي 1440 مليون دولار عام 1985. 

لم تقتصر الأزمة الإجتماعية فقط على إنخفاض الأجر الحقيقي وكتلة الأجور بصورة عامة، بل تزامنت أيضاً مع هبوط القيمة الحقيقية للمدخرات، وخاصة تلك المودعة بالليرة اللبنانية في البنوك، وخسرت الودائع قرابة 96 في المئة من قيمتها، بين عاميّ 1983 و1987.

يعود هذا الانهيار إلى أسباب عدة، منها خروج منظمة التحرير من لبنان وإخراج أموالها من المصارف اللبنانية بنحو مليار ونصف من الدولارات الأميركية، وصفقة شراء السلاح في عهد امين الجميل بمليارين دولار عام 1983 تحت قيادة العماد ابراهيم طنوس.

 


إفلاس بنك إنترا: عام 1956 أقرّ مجلس النواب قانون السرّية المصرفية الكلّية، مما ساهم في جذب الودائع والاستثمارات الأجنبية، وارتفعت الودائع المصرفية وتدفّقات رأس المال والاستثمارات الجديدة، وامتد النموّ في الخمسينيات إلى الستينيات، فأنشئ مصرف لبنان في عام 1964، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

وفي 15 تشرين الأول 1966 توقف بنك "إنترا" عن دفع أموال المودعين، وعزا امين سرّ مجلس الإدارة إبراهيم بيدس الامر لإرتفاع الفوائد العالمية. فيما أتى إفلاس المصرف نتيجة ازمة التضخم في بداية عام 1964.

ارتبط نجاح المصرف بالسريّة المصرفية واموال النفط من الدول العربية، وانشرت فروعه في دول عدة، خاصة في أوروبا، إضافة إلى دول الشرق الأوسط والاميركيتين. وعند افلاسه كان لديه 17 في المئة من مجمل الودائع في لبنان، و38 في المئة من ودائع البنوك اللبنانية.
 كان لافلاس المصرف تداعيات كبيرة على لبنان والشرق الأوسط، إذ فقد لبنان مصداقية نظامه المصرفي. 

تقرير بعثة ايرفد: بُعيّد إنتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية عام 1958، عمل على تنمية الدولة، وطلب عام 1959 من الخبير الإقتصادي والإنمائي الأب لويس – جوزف لوبريه، رئيس مؤسسة "إيرفد" التابعة لمعهد "إيرفد" في باريس، القدوم إلى لبنان للقيام بعملية مسح شامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيه.

طرحت البعثة النقاش حول الحرية والتوجيه في الإقتصاد، بعد وقوع أزمة تضخّم وغلاء معيشي عام 1965، خلال عهد الرئيس شارل حلو. وظهر الخلاف بين تيار أراد القيام بإصلاح بنيوي في النظام الاقتصادي، وتيار أراد الدفاع عن الحرية الاقتصادية، دون أية ضوابط على القطاع المالي لمنع الاحتكار.

وقال تقريرها عام 1961 أن الازمات السياسية والطائفية، يكمن خلفها خلل اقتصادي واجتماعي، والازدهار في بيروت، يخفي وراءه فقراً وتخلفاً في المناطق الأخرى، تحديداً في خاصةً البقاع والهرمل وعكار والجنوب، بظل غياب البنى التحتية، وإن الازدهار الظاهر في العاصمة بيروت، يخفي تخلفاً وفقراً مرعبين في مناطق أخرى، وتنبأت بافلاس لبنان في حال حافظ على نموذجه الاقتصادي.

أشارت البعثة إلى الخلل في الشكل الاقتصادي، من ناحية الهجرة الكثيفة من الأرياف إلى المدن، إضافة إلى غياب الاهتمام بقطاعي الصناعة والزراعة، الذي كان القطاع الأساسي في البقاع والشمال والجنوب، مقابل دعم المشاريع السياحية الجاذبة للاثرياء فقط.

والمشكلة الأساسية بحسب البعثة هو غياب التخطيط لمدينة بيروت.

نقاشات ما بعد الاستقلال: بعد استقلال لبنان عن فرنسا عام 1943، خيضت نقاشات حول النموذج الاقتصادي المفترض اتباعه، وخاضه بشكلٍ رئيسي ميشال شيحا من الناحية اللبنانية، ورياض الريّس من الناحية السورية. وفي وقت ارتكز الاقتصاد السوري على القطاعيّ الزراعة والصناعة، وقطاع تجاري مرتكز بشكلٍ كبير على المستوردين والوسطاء والوكلاء الحصريين للشركات الأجنبية من اللبنانيين، ارتكز الاقتصاد اللبناني على التجارة الدولية والخدمات والسياحة والاصطياف. 
واعتمدت سوريا على مبدأ الحماية الجمركية بعد الاستقلال، فيما رفض لبنان الحماية واعتمد على الصناعات المستوردة. وتباهى شيحا بالتفوق الاقتصادي اللبناني، ودعا سوريا لاعتماده، واعتبر أن لبنان يبنى مستقبله على النوعية في التنوع فيما سورية تبني مستقبلها على الكمية. وعارض شيحا الصناعة والحماية الجمركية.
من جهته اعتبر الريّس أن "حكومة لبنان تعيش تحت سيطرة قوية يفرضها عليها المستوردين من عائلات معروفة ومن بيوتات تجارية ذات علاقة بالحكم وملابسات ببعض رجاله".

 

 

مجاعة 1916: في شهادة للأب انطوان يمين حول المجاعة عام 1914، يومها ملأت الجثث الطرقات، وانتشر الجوع بين الناس، وسيطر الغلاء بسبب الاحتكار. وصف الوضع حينها قائلاً "هذه كانت حالة الشعب البائس من الجوع والتعاسة، بينما كان القسم الأكبر من أغنياء البلاد وزعمائه يتنعّمون بكل الملاذ، يولمون الولائم الفاخرة ويحيون الليالي المطربة ويختلفون إلى المنتديات العمومية ونوادي اللعب حيث يقتلون أوقاتهم وينفقون أموالهم الطائلة غير مفكرين بإغاثة الملهوف ولا مبالين بدموع اليتيم وبكاء الأرملة وعويل العاجز والمُقعد".

عدد الاب يميّن في شهادته أسماء المحتكرين، الذين كانوا يبادلون الحبوب بالزيت والصابون والدبس والأقمشة، كل ذلك كان من أكبر مسبّبات الشقاء والموت جوعاً في لبنان، بحسب يمين. والمحتكرين هم علي منيف بك متصرف الجبل في ذلك العهد، والمحتكرون وفي مقدمتهم ميشال إبراهيم سرسق (مات) والحاج رئيف المشنوق، والسادات محيي الدين وعبد الحميد الغندور وعبد الغني وعبد القادر الغندور، ومحمد حليم بك محاسبجي المتصرفية في ذاك الحين، وأحمد وفيق أميرالي الجند اللبناني يومذاك، وكمال اليافي (مات) ترجمان علي منيف، والطبيب نجيب الأصفر مدير شركة الحبوب اللبنانية، وإسكندر بك الخوري وزخور العازار من أعضاء المجلس الإداري اللبناني في ذلك العهد، والياس عيد جدعون، وأكثر مديري مستودعات شركة الإعاشة وملتزمو نقل الحبوب إلى القرى، ومأمورو القبان في مستودعات الإعاشة وفي مقدمتهم يوسف الدقاق من بيروت مأمور قبّان مستودع بطرّام.

وعن إجرام المحتكرين كتب "رأينا ذلك المتموّل المتكبّر يمثّل الإنسانية القوية بكل مظاهر الغنى والجاه من شمم الأنف ونعومة اللباس والتحلي بأثمن الجواهر وأنفس المعادن، ورأينا ذلك الضعيف المعدم صريعاً في حومة الجهاد البشري يقاسي عذاب المسكنة معفّر الجبين في تراب المذلّة تبدو عليه آثار الشقاء من ثيابه الرثة".