مئة عام من الانهيار (2)
مئة عام من الانهيار (2)
في بحث لتوالي الازمات في لبنان، حاولنا وضع يدنا على الحجر أساس لإنهيارنا اليوم. عدنا مئة عام إلى الوراء، إلى أبرز الازمات المتكررة، وإذ بنا ندور في دوامة من فراغ الاقتصادي، ينعم فيها 10 في المئة من التجار والمحتكرين والمحظيين، بثروات المجتمع على حساب الـ 90 في المئة الاخرين، بعد أن فقدوا ماضيهم وحاضرهم، ومستقبلهم.
ازمة الثمانينيات: عام 1985 شهد لبنان موجة تضخم كبيرة وصلت إلى 487%، وتدهور في سعر الصرف من 2.43 ليرة عام 1975 إلى 18.1 ليرة عام 1985. وشهدت العملة مضاربات كثيرة، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار والمواد الغذائيّة والاستهلاكيّة الضروريّة، وبلغ معدّل التضخّم أعلى مستوى له عام 1987، مع وصول الدولار إلى 455 ليرة نهاية هذا العام. وانخفض الحدّ الأدنى للأجور من 243 دولار سنة 1982، أيّ 925 ليرة، إلى 81 دولاراً عام 1985، أيّ 1475 ليرة، على الرغم من تصحيح الأجور 4 مرات. وانخفض احتياط مصرف لبنان من 3 مليارات دولار عام 1982، إلى حوالي 1440 مليون دولار عام 1985.
لم تقتصر الأزمة الإجتماعية فقط على إنخفاض الأجر الحقيقي وكتلة الأجور بصورة عامة، بل تزامنت أيضاً مع هبوط القيمة الحقيقية للمدخرات، وخاصة تلك المودعة بالليرة اللبنانية في البنوك، وخسرت الودائع قرابة 96 في المئة من قيمتها، بين عاميّ 1983 و1987.
يعود هذا الانهيار إلى أسباب عدة، منها خروج منظمة التحرير من لبنان وإخراج أموالها من المصارف اللبنانية بنحو مليار ونصف من الدولارات الأميركية، وصفقة شراء السلاح في عهد امين الجميل بمليارين دولار عام 1983 تحت قيادة العماد ابراهيم طنوس.
وفي 15 تشرين الأول 1966 توقف بنك "إنترا" عن دفع أموال المودعين، وعزا امين سرّ مجلس الإدارة إبراهيم بيدس الامر لإرتفاع الفوائد العالمية. فيما أتى إفلاس المصرف نتيجة ازمة التضخم في بداية عام 1964.
تقرير بعثة ايرفد: بُعيّد إنتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية عام 1958، عمل على تنمية الدولة، وطلب عام 1959 من الخبير الإقتصادي والإنمائي الأب لويس – جوزف لوبريه، رئيس مؤسسة "إيرفد" التابعة لمعهد "إيرفد" في باريس، القدوم إلى لبنان للقيام بعملية مسح شامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيه.
طرحت البعثة النقاش حول الحرية والتوجيه في الإقتصاد، بعد وقوع أزمة تضخّم وغلاء معيشي عام 1965، خلال عهد الرئيس شارل حلو. وظهر الخلاف بين تيار أراد القيام بإصلاح بنيوي في النظام الاقتصادي، وتيار أراد الدفاع عن الحرية الاقتصادية، دون أية ضوابط على القطاع المالي لمنع الاحتكار.
وقال تقريرها عام 1961 أن الازمات السياسية والطائفية، يكمن خلفها خلل اقتصادي واجتماعي، والازدهار في بيروت، يخفي وراءه فقراً وتخلفاً في المناطق الأخرى، تحديداً في خاصةً البقاع والهرمل وعكار والجنوب، بظل غياب البنى التحتية، وإن الازدهار الظاهر في العاصمة بيروت، يخفي تخلفاً وفقراً مرعبين في مناطق أخرى، وتنبأت بافلاس لبنان في حال حافظ على نموذجه الاقتصادي.
والمشكلة الأساسية بحسب البعثة هو غياب التخطيط لمدينة بيروت.
مجاعة 1916: في شهادة للأب انطوان يمين حول المجاعة عام 1914، يومها ملأت الجثث الطرقات، وانتشر الجوع بين الناس، وسيطر الغلاء بسبب الاحتكار. وصف الوضع حينها قائلاً "هذه كانت حالة الشعب البائس من الجوع والتعاسة، بينما كان القسم الأكبر من أغنياء البلاد وزعمائه يتنعّمون بكل الملاذ، يولمون الولائم الفاخرة ويحيون الليالي المطربة ويختلفون إلى المنتديات العمومية ونوادي اللعب حيث يقتلون أوقاتهم وينفقون أموالهم الطائلة غير مفكرين بإغاثة الملهوف ولا مبالين بدموع اليتيم وبكاء الأرملة وعويل العاجز والمُقعد".
عدد الاب يميّن في شهادته أسماء المحتكرين، الذين كانوا يبادلون الحبوب بالزيت والصابون والدبس والأقمشة، كل ذلك كان من أكبر مسبّبات الشقاء والموت جوعاً في لبنان، بحسب يمين. والمحتكرين هم علي منيف بك متصرف الجبل في ذلك العهد، والمحتكرون وفي مقدمتهم ميشال إبراهيم سرسق (مات) والحاج رئيف المشنوق، والسادات محيي الدين وعبد الحميد الغندور وعبد الغني وعبد القادر الغندور، ومحمد حليم بك محاسبجي المتصرفية في ذاك الحين، وأحمد وفيق أميرالي الجند اللبناني يومذاك، وكمال اليافي (مات) ترجمان علي منيف، والطبيب نجيب الأصفر مدير شركة الحبوب اللبنانية، وإسكندر بك الخوري وزخور العازار من أعضاء المجلس الإداري اللبناني في ذلك العهد، والياس عيد جدعون، وأكثر مديري مستودعات شركة الإعاشة وملتزمو نقل الحبوب إلى القرى، ومأمورو القبان في مستودعات الإعاشة وفي مقدمتهم يوسف الدقاق من بيروت مأمور قبّان مستودع بطرّام.