من لبنان إلى العالم.. منظمة «أصالا» الأرمنية السرية و «الذئب الأغبر»

من لبنان إلى العالم.. منظمة «أصالا» الأرمنية السرية و «الذئب الأغبر»

  • ٢٤ نيسان ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

إن كان الأرمن أحبوا لبنان بسبب الحرية الإقتصادية التي يتميّز بها واحترامه للأقليّات، إلا أنًََ مؤسس منظمة «أصالا» أحبّ لبنان لكونه ميدانا للحرب والفوضى التي مثّلت له فرصة لخوض النضال العسكري إنطلاقاً من لبنان، ضدّ تركيا.

بين الأرض اللبنانية والأرمن علاقة أكثر من عميقة. ليست التجارة ما يجمع بينهما، ولا هو الخوف «الأقلوي» فقط، بل النضال العسكري والثوري كذلك. وربما يكون ذلك الأرمني أكثر راديكالية من النضال اللبناني، وبأشواط، خاصة وأنّ الأرمن قرروا مرّة تأسيس جيش ثوري في لبنان لينطلق ويمارس عمليات النضال في جميع أنحاء العالم.

بالتزامن مع بداية الحرب اللبنانية، أنشأ رجلٌ أرمني قادم من مدينة الموصل العراقية ويُدعى هاغوب هاغوبيان، منظمة ثورية أرمنية في لبنان أسماها «الجيش الأرمني السري لتحرير أرمينيا»، أو«أصالا» إختصاراً كما يسميها الأرمن. تناسب العام 1975 مع الذكرى السنوية الستين للإبادة الأرمنية التي ارتكبتها السلطنة العثمانية وأودت بحياة أكثر من مليون أرمني بحسب معظم مراكز الدراسات الأرمنية المعنية بهذا الشأن.

وإن كان الأرمن أحبوا لبنان لسببين رئيسيين، هما الحرية الإقتصادية التي يتميّز بها كما احترامه للأقليات الدينية، أحب هاغوبيان لبنان لأنّه كان، منذ 1975، ميداناً للحرب والفوضى والفرض. والحرب، رغم بشاعتها، هي أزمة للكثيرين، لكنها تمثل فرصة للبعض، ومنهم هاغوبيان الذي أقام حلفاً مع «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» العاملة في لبنان، ذات الفكر الشيوعي الراديكالي، وقرر خوض النضال العسكري إنطلاقاً من لبنان ولكن ليس ضدّ إسرائيل أو اللبنانيين، إنّما ضدّ تركيا.

تنقل هاغوبيان بين غرب بيروت، الكورة في الشمال كما البقاع، ولقّن أنصاره التدريبات العسكرية الأولية على يد «الجبهة الشعبية». لم يكترث بأن يشكّل حركة قتالية ميليشياوية بقدر إكتراثه في مجال الأمن. تخصّص الرجل ومنظمته بالاغتيالات، فكانت الفاتحة في 16 شباط 1976، عبر اغتيال أوكتار جيريت، السكرتير الأول في السفارة التركية في بيروت. 

أنصار هاغوبيان و«أصالا» لم يكونوا كثر في لبنان، لكنهم كانوا كافين لنقل النشاط الثوري إلى خارج لبنان. طاف أعضاء المنظمة حول العالم، وراحوا يغتالون كل تركي ذو شأن. الدبلوماسيون، رجال الأعمال، رجال الإعلام وحتى المسؤولين السياسيين العاديين من الأتراك تمّ اغتيالهم من قبل «أصالا»، فيما يؤكد «المعهد الدولي لمحاربة التطرّف» أنّ عدد هجمات «أصالا» وصل إلى حدود 84 هجوماً أودى بحياة 46 شخصاً و299 جريحاً على الأقل.

من بين هؤلاء الذين تمّ اغتيالهم كان السفير التركي في النمسا، دانيس توناليغيل، والسفير التركي في فرنسا، إسماعيل فيريز، كما هجوم شنّته المنظمة على مطار العاصمة التركية أنقرة عام 1982 أدى إلى مقتل 9 أتراك. والراديكالية الأرمنية الناشئة حديثاً في لبنان، لم تكتفِ بتنفيذ الإغتيالات بحقّ الأتراك في أوروبا ومن ثم في كندا، إنّما بدأ ظهور بعض الأعمال الجدّ راديكالية بين أعضاء المنظمة، كمثل قيام التركي من أصل أرمني، أرتين بينيك، بإضرام النار بنفسه عام 1982، كما يذكر الكاتب الشهير أوليفر روي في كتابه «تركيا اليوم: بلد أوروبي؟».

وكان هاغوبيان مؤمناً أنّ حقّ الأرمن التاريخي «لن يتمّ تحقيقه إلا بالقوة»، حسبما يذكر في مقابلة مع مجلة «الحوادث» اللبنانية في 12 شباط 1982. وكان أعضاء المنظمة يرفضون الإتكال على القانون الدولي والمنظمات الحقوقية في إصدار أحكام متعلقة بالإبادة الأرمنية أو في إجبار السلطات التركية على الإعتراف بها أو التعويض على أبناء وأحفاد الضحايا، بل يرون أنّ النضال العسكري المباشر هو الحلّ لإجبار تركيا على التعويض عما حلّ بالأرمن، فيما هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إيذائها بشكل مباشر.

في مقابل ذلك، كان على الجهات التركية أن تتصرف لردع الضرر عن دبلوماسييها وحملة جنسيتها، كما الرّد عن الإهانات الدولية التي تعرضت لها جراء أعمال منظمة «أصالا». ما كان يمكن لأنقرة أن ترسل الجيوش إلى لبنان ولا إلى أوروبا أو كندا حيث نشطت المنظمة بعد عام 1983 عبر محاولة إغتيال دبلوماسيين وتجار أتراك. كان الحلّ التركي هو مواجهة الإغتيالات بالإغتيالات، لذا رعت منظمة تدعى «الذئب الأغبر» وأعطتها التدريبات اللازمة وكيفية التصرّف الأمني في الميدان، وأرسلتها إلى أوروبا لكي تتصيد أعضاء «أصالا».

وكانت منظمة «الذئب الأغبر» حركة طلابية نشأت على يد ألب إرسلان توركيش، وهو مؤسس حزب «الحركة القومية» الراديكالي المعادي لكل من ليس من العرق التركي ويسكن على أرض تركيا. لكن تخلّي الرجل عن العمل السياسي، جعل من المنظمة دون قائد، فاستفادت منها السلطات الأمنية التركية وجهزتها لمحاربة «أصالا». فدارت، بين المنظمتين، كما تذكر الكتب المعنية بهذه الحروب المخفية، حرب إغتيالات على الأراضي الأوروبية، فيما كانت الغلبة للجانب التركي بعد تمكنه من اغتيال هاغوبيان في إحدى فنادق العاصمة اليونانية أثينا عام 1988، ما أكد الإدعاءات التركية بأنّ اليونان، الجارة اللدودة، كانت تدعم المنظمة.

أما في لبنان، فانحل عقد «أصالا» بعد سنوات من النضال المنطلق من هذه الأرض، فيما اندمج بعض أعضاءها في حزب «الطاشناق»، أو ذهبوا لقتال دولة آذربيجان عام 1992، عندما اندلعت حرب بينها وبين الدولة الأرمنية، ثم استقروا في إقليم أرستاخ (ناغورنو كره باغ) منذ ذلك الحين.

ونادراً ما يذكر تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية هذه الأحداث، والجماعات العسكرية التي نشأت وترعرعت في لبنان، وكان لها تأثير مهم على مجريات الحياة السياسية والدبلوماسية العالمية. إلا أنّ تجربة «أصالا» العسكرية، تبقى الأقل دراسة بالمقارنة مع الجماعات العسكرية الأخرى التي نشأت في لبنان أو ترعرعت فيه، وراحت تمارس نضالها في دول العالم.