توفيق كسبار: المصارف مفلسة ووقحة
توفيق كسبار: المصارف مفلسة ووقحة
مع بداية الإنهيار، كان يقف الدكتور توفيق كسبار، الباحث الإقتصادي، في صيدلية، والناس تدخل وتخرج متجهمين لعدم قدرتهم على تحمل تكلفة الدواء. وفي حادثةٍ أخرى، شاهد رجل مسن أمام سوبرماركت يصرخ وبيده ربطة خبز، «كيف سأعيش وهذا بات سعر الخبز»، ويقول كسبار معلقاً «هذه الواقعة تستحق أن نرى أشخاصاً في السجن».
روى كسبار هاتين الحادثتين، خلال ندوة حول «التدقيق الجنائي لمصرف لبنان وطرق المضي قدماً»، التي أقامها «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» في الجامعة الأميركية في بيروت. تحدّث خلالها إلى جانب كسبار، نائب حاكم مصرف لبنان السابق غسان عياش، وأدارها الصحافي الإقتصادي منير يونس.
ناقشت الندوة ورقة بحثية لكسبار تحت عنوان «مصرف لبنان، تحليل جنائي»، التي درس فيها نتائج تقرير «الفاريز ومارسال» حول حسابات المصرف المركزي اللبناني.
خلصت الورقة إلى أنّ حاكم مصرف لبنان كان يدير المصرف بشكلٍ أحادي، معتمداً أساليب محاسبية إعتباطية، وخافياً خسائره المتزايدة تحت بنود نفقات مؤجلة وإيرادات غير مبرّرة ناجمة عن طبع العملة وعن غيرها. ويذكر التقرير الجنائي أنّ أكثر من 111 مليون دولار أميركي دفعت على شكل «عمولات غير مشروعة»، رفض المصرف تحديد المستفيدين منها، كما برزت عمليات ومعاملات عدة، تقدّر قيمتها بمئات ملايين الدولارات، استفاد منها أفراد عائلة الحاكم.
كما كشف التقرير الجنائي عن خسائر كبيرة مترتبة على المصرف وأموال خاصة سالبة فضلاً عن صافي احتياطي بالعملات الأجنبية سلبي وصل إلى عجز مقداره 60 مليار دولار بحلول نهاية العام 2019، رغم أنّه كان ينشر ميزانيات بوضعيات مالية إيجابية. وألقى البحث اللوم على الهندسات المالية التي قام المصرف بها ، وما حدث أنّه أغرى من خلالها المصارف لتحويل سيولتها بالدولار من المصارف الأجنبية المراسلة إلى مصرف لبنان، مقابل الحصول على معدلات فائدة عالية وعلاوات غير إعتيادية. فكانت النتيجة إنخفاض سيولة المصارف بالدولار بشكلٍ حاد، وصلت إلى نحو 70 في المئة وهذا هو العنصر الأهم الذي أدى إلى الإنهيار المصرفي.
تحدث كسبار عن إنهيارين، الأول لليرة والذي حدث مثله في الثمانينيات، والثاني الإنهيار المصرفي، ويضيف «الإنهيارين ليسا بالضرورة متناسقين، طبيعتهما مختلفة، وأسبابهما مختلفة ونتائجهما مختلفة». ويصف الإنهيار المصرفي في لبنان ب "أكبر إنهيار مصرفي في التاريخ الحديث، لأنّه قضى على مدخرات ثلاثة أجيال، الآباء والأبناء والجيل القادم».
وبعد 4 سنوات ونصف لا يوجد أي تفسير رسمي وشبه رسمي لما حدث، وهذا بحد ذاته جريمة بحسب كسبار، ولا تقرير أو سردية رسمية، ومن هنا تظهر «أهمية تقرير الفاريز ومارسال، كونه أول تقرير رسمي بطلب من الحكومة اللبنانية، وأول تقرير رسمي منذ إنشاء مصرف لبنان عام 1964، هذا على الرغم أنّ المصرف إمتنع بوضوح عن إعطاء الأرقام كاملة، ولم يقدّم سوى الثلث، متحججاً بالسرية المصرفية، علماً أنّ مجلس النواب علّق العمل بالسرية المصرفية لغاية إجراء التقرير».
كما أنّ السياسات النقدية لا يحددها الحاكم بمفرده بل بالإتفاق مع المجلس المركزي، والمؤلف من 7 أعضاء، يمكن لأربعة أعضاء أن يعترضوا على قرارات الحاكم، ويضيف كسبار، «إلى جانب المجلس المركزي، هناك مفوض الحكومة ولجنة الرقابة على المصارف، وزير المالية، ومجلس الوزراء ومجلس النواب، وجميعهم ضوابط قانونية، لكن لم ينجح أي منهم بوقف ما كان يقوم به الحاكم، لأنّ كلّ التعيينات كانت سياسية، ووظيفة المُعَين سياسياً أن يرضي الطرف الذي عيّنه، لا أن يعمل وفق القانون».
أشار تقرير «الفاريز ومارسال» إلى أنّ المجلس المركزي أعطى الحاكم الصلاحيات التي يريدها، بشكل غير عادل، وهذا جريمة وتخلي عن المسؤولية، فخلال الحرب الأهلية، كان مجلس النواب يستدعي الحاكم لمساءلته، لكن منذ تعيين الحاكم السابق رياض سلامة لم يتمّ يإستدعائه ولو لمرةً واحدة، أو بالأحرى مُنع إستدعاؤه».
بحسب التحقيق الجنائي، هناك 36 مليار دولار لم يعرف أين ذهبت، لكن بحسب تقرير «كرول» إنّ المبلغ هو 8 مليار دولار، ويشرح كسبار سبب هذا الاختلاف أنّ «اوبتيموم إنفست هي شركة مالية بسيطة، تأخذ عمولة بين ربع وواحد في المئة، وبعد ما ذاعت سمعتها السيئة، خاصة بعد تقرير الفاريز ومارسال، طلبت شركة اوبتيموم انفست، التي اشتراها مالكين جدد منذ عام 2021، من شركة «كرول» القيام بتدقيق محاسبة. وأهمية التقرير أنّها أجبرت على فضح كل التعاملات التي قامت بها اوبتيموم انفست مع مصرف لبنان، وأظهر تقرير كرول، مثلاً، حصول 45 عملية خلال 6 أشهر، من أيلول 2017 إلى آذار 2018، وكانت تجري على الشكل التالي، يقول مصرف لبنان لابتيموم سأقدّم لك تفاصيل عملية، يفتح لها حساب في المصرف، ويقدّم لها مبلغ لتشتري منه سندات وتضعها بكفالة، وتبيعها بسعرٍ معين لتعود لتبيعها للمصرف بسعر معين وتعيدها إليه. وعبرها قام مصرف لبنان بعمليات توازي 8.6 مليار دولار، حصد أرباح بقيمة 8 مليار دولار، وعليه فإنّ المصرف قام بعمليات مع نفسه. في أي بلدٍ آخر، يوضع الحاكم في السجن خلال 24 ساعة، والأسوأ أنّه لم يعرف أين ذهبت الأموال، وسجلت احياناً أنّها عمولة إستشارية».
يشير كسبار إلى أنّ هناك سردية موحّدة، يرددها الجميع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومفادها أنّ الناس أودعوا أموالهم لدى المصارف، والمصارف وضعتها لدى مصرف لبنان، والمركزي أعطاها للدولة، لكنه يؤكد، بناءً على الأرقام الرسمية، أنّ الدولة أعطت دولارات للمصرف أكثر مما هو أعطاها، ويقول «الأكثر إهانة لذكاء للمواطنين، أنّه في القانون والمحاسبة، المصارف أفلست، وفي الوقت عينه تقبل ولا تقبل الإجراءات حسب ما يناسبها، وهذا الحل يناسبني وهذا لا، هذه وقاحة، المصارف المفلسة تفرض ما تريد على السلطة».
ويعود نائب حاكم مصرف لبنان السابق غسان عياش الى عام 2018 قائلاً، لم تكن هناك أرقام واضحة في بيانات مصرف لبنان حول حجم الودائع والإحتياطات بالعملة الأجنبية، وهذا يظهر إذا كان مصرف لبنان مؤسسة مفلسة أو لا، وإذا طارت الودائع أم لا، كان هناك تكتم شديد وعلى الرغم من قربه من المصرف، لم يكن قادراً على معرفة الرقم الصحيح، لكنه تمكن أخذها من الدكتور كسبار ليتبين أنّ إحتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية في حالة عجز، أي أنّ الودائع تبخرت.
ويصف مرحلة رياض سلامة بالـ «غريبة عجيبة»، والكارثة التي كنا نعيش فيها هي كارثة سياسية، معتبراً أنّ كلّ خطأ يرتكبه حاكم مصرف لبنان يوازيه بالمسؤولية وزير المالية، لأنّ القانون أعطاه الوسائل الكافية للمراقبة والإصلاح والتوجيه.
يتساءل عياش عن دور لجنة المال والموازنة، إن كانت تعمل في المال والسياسية، وعن جدوى تواجد رئيسها النائب إبراهيم كنعان في المباحثات الإقتصادية ما بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، ويعتبر أنّ حلم الرئاسة سبب أساسي وراء الإنحراف الذي أدى إلى الانهيار.