في بيتكَ كنا نبلغ ملء الحرية

في بيتكَ كنا نبلغ ملء الحرية

  • ١٢ أيار ٢٠٢٤
  • أنطوان الخوري طوق

صفير رحيق المواقف الثابتة في كلامه

 

نشر على موقع النهار بتاريخ ١٤ - ٥- ٢٠١٩

أيها الراعي الصالح، ها هو الباب يفتح لك، ومن يدخل من الباب كان راعي الخراف وها هي الخراف تصغي الى صوتك وأنت تدعوها بإسمها وتسير قدّامها لأنّها تعرف صوتك، أما الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه لأنّها لا تعرف صوت الغرباء، فالأجير ليس كالراعي لأنّ الخراف ليست له، فإذا رأى الذئب مقبلاً ترك الخراف ونجا بنفسه فيخطف الذئب الخراف ويبددها.

أيّها الراعي الصالح أنت تعرف خرافك وخرافك تعرفك.
خرافك تعرفك منذ ارتقائك السدّة البطريركية التي أعطيت مجد لبنان، وأنت تعمل ليل نهار وفي الأزمنة الصعبة على رغم عبء السنين وثقل الأحمال من دون أن يحطّ من عزيمتك كيد مغتاظ طامع أو طامح أو تهجم منتفع ضالّ، ومن دون أن يغريك ترغيب أو يحطّ من جرأتك الانجيليّة ترهيب، عاملاً على إبداع لغة وطنيّة إنسانيّة مشتركة وجامعة بين اللبنانيين على إختلاف مشاربهم وإنتماءاتهم، داعياً الى المصالحة وتنقية الذاكرة الوطنية والوفاق والتضامن والحقّ والحريّة في الاختلاف من أجل قيام مجتمع الحريّة والعدالة والتقدّم، مشدداً على دور الموارنة في كونهم عنصر تلاقٍ بين الاديان والحضارات ورسلاً للتوافق بين الشعوب، ومؤكداً خبرة الكنيسة في العيش المشترك وحوار الحياة، معززاً الحوار المسيحي الاسلامي، مؤكداً من دون أي رهان على شرق أو غرب، أنّ صراع الحضارات ورم سرطانى مميت، وأنّ الحوار بين الاديان والثقافات يضمن وحدة المستقبل الواعد للبنان والبشريّة جمعاء.
على خطى أسلافك من البطاركة القديسين كنت تطلق دعوة الكنيسة الى الجميع ومن أجل الجميع لتبني قيم الشراكة والحريّة في لبنان ليستعيد هذا الوطن الصغير والجريح كما البلدان الكبيرة كل مقوّمات سيادته وإستقلاله وقراره الحرّ، وليقوم بدوره كرسالة حريّة ونموذج تعدديّة وتنوّع للشرق كما للغرب، داعياً أبناءك الموارنة واللبنانيين في لبنان كما في بلدان الانتشار الى عدم التخلّي عن حقوقهم المشروعة كمواطنين وعلى التشبّث بالأرض وبالهويّة الوطنية، معيداً دور المسيحيين الذين حملوا رسالة التنوير والحداثة في محيطهم العربي عبر إطلاقهم نهضة فكريّة وأدبيّة في هذا الشرق وهم يشهدون لخصوبة هذه الارض، أرض النساك والبطاركة، والمفكرين والشعراء والفنانين وأهل الصحافة والسياسة والعلماء، أرض حسن كامل الصباح، ومايكل دبغي، أرض جبران، ومارون عبود، والريحاني، والبساتنة، وشبلي الشميل، وجورج أنطونيوس، وفارس نمر، ويعقوب صروف، وشارل مالك، وسعيد عقل، والاخطل الصغير، واليازجيين، وجرجي زيدان، والمطران جرمانوس فرحات، والسمعاني، والبطريرك الدويهي، والشيخ عبدالله العلايلي، وأمين نخلة، وسعيد تقي الدين، وحسين مروة، ووديع الصافي، وفيروز والرحابنة، وفؤاد شهاب، وكمال جنبلاط، وريمون إده، ونسيب لحود، وسمير فرنجية، وغسان تويني، وكامل مروة، وكُثُر…
وأنت أيّها المثابر على تجذّر الكنيسة في هذا الشرق عبر الصلب والقيامة وعبر الشهادة للحقّ ولقيم الحريّة وحقوق الانسان وعبر الانتصار لأخوة المسيح الصغار، لم تمنعك الأخطار والسنون من دقّ أبواب العواصم على خطى سلفك البطريرك الحويك لتعيد الى لبنان مكانته وموقعه بين الأمم.
أيّها الزاهد والسيّد المترفّع، المعلّق على خشبة لبنان، على خطى سيدك في هذه الجغرافيا الصعبة والمعقدة والقلقة، قد يساء إليك وقد تُطعَن بالحربة وقد تُشتَم وقد تتجرع الخلّ والمر وقد تُنكر مرات ومرات قبل صياح الديك وعنده وبعده، وقد تجد قيروانياً يساعدك في حمل الصليب وقد لا تجد، وقد تُظلَم من ذوي قرباك، وقد تُجلَد بسياط الكلام الجارح واللاذع لكنك تبقى أنت أنت عفيف العقل والقلب، متصالحاً مع الله ومع ذاتك ومع الانسان ومع هذه الارض.
 
تبقى أنت أنت، كلامك نعم نعم ولا لا، كلما تعلّق الأمر بحظيرتك وخرافك وأرضك ورسالة وطنك، تبقى أنت أنت تُعِدّ العجول المسمنة للأبناء الضالين من دون أن تقفل بابك في وجه أحد لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون. تبقى أنت أنت من دون أن يمنعك وقار السنين من دحرجة الحجارة عن قبر لبنان لإعلان قيامة هذا الوطن الجريح.
أيّها السيد المترفع، يا صاحب القدرة العجيبة على الصفح والغفران.
أيّها المتعقل والرصين في أزمنة اللغو الكلامي والكلام الخشبي وزلات اللسان.
خرافك في لبنان، في هذه الارض، أرض الفكر والعلم والفن والعناد في الدفاع عن لبنان، خرافك هذه أنت تعرفها وهي تعرفك، لقد عرفتك مدافعاً عن كرامتها يوم نُكِّل بها وهاجمتها الذئاب الخاطفة والعسس وأشباح الليل، عرفتك شاهداً للحقّ في أزمنة التزوير وإنتهاك الذاكرة الوطنية وتحريف المصطلحات.
ألا تتذكر صبيحة ذلك اليوم من أيلول ٢٠٠٠؟
أيّتها الذاكرة النقيّة والصافية المضاءة بنور التبصّر والقراءة المتأنية لعلامات الأزمنة والرصد الدقيق للتحولات الكبرى وأخطار الانفعال المتهور وزلاّت اللسان.
أنت تعرف خرافك وخرافك تعرف صوتك كل صباح من على مذبح الربّ، يوم كنت تكسر الصمت عندما كان لبنان يُقضم في وضح النهار في ظلّ صمت الأقربين والأبعدين. كم كنت بارعاً وشجاعاً وحكيماً وأنت تحاول سحبه من بطن الحوت!
«لقد قلنا ما قلناه»، يا سيد الإيجاز والبلاغة، وأنت تجمع رحيق المواقف الثابتة في كلامك المُقِّل.
ويوم كان التسابق على قدم وساق على الدروب لنيل حظوة أو موقع أو رضى من الوصيّ، وأنت الضليع في التاريخ والجغرافيا، لم تعرف أين يقع "قصر المهاجرين"، فدروبك كانت مسالك وصوامع الآباء المؤسسين في قاديشا وقنوبين، دروب البطاركة الذين كانت قلوبهم من ذهب وعِصيَّهم من خشب.
يا ذهبيّ الفم، كم بنا شوق الى صباحات تلك الآحاد من على مذبح الرّب في بكركي وأنت تشعل مع البخور جُذوة الحريّة في قلوب اللبنانيين التي لن يطفئها غياب ولن يقوى عليها موت.
يا سيدي، لقد أتعبتنا الثرثرة والارتجال وأنهكتنا المتاجرة بحقوق المسيحيين وأدوارهم، وأغضبنا هذه الزنى السياسي على أرصفة لبنان، وهذا الجهل بتاريخ أبنائك صانعي النهضة والتنوير في هذا الشرق، ولا سيما عندما يتحدثون عنا كأقليات ويستجدون الاموال بإسمنا في العواصم وعلى أبواب السفارات، محوِّلين الربيع الذي خرج من جُبَتِك الى خريف ويباس.
فأنت أنت الوحيد من بين رجال الدين لم تُزعج العلمانيين الاحرار عندما أطللت على السياسة في لبنان لأنّك أعليت صوت حقّ اللبنانيين في الحريّة والاستقلال. فمجد لبنان قد أعطي لك عن حقّ.
يا سيدي،
حين كانت تلفظنا الشوارع، وتضيق بنا الأيام، وتعصف بنا أنواء التاريخ، ويشتدّ علينا الضّيم، كنا ندخل بيتك ونلقي بأحمالنا الثقيلة.
فنحن، كنا لا نبلغ ملء حريتنا إلّا في بيتك.