سيّد الإيجاز .. «لقد قلنا ما قلناه»

سيّد الإيجاز .. «لقد قلنا ما قلناه»

  • ١٢ أيار ٢٠٢٤
  • كاسندرا حمادة

البطريرك صفير في الذكرى الخامسة لرحيله

عندما سُئل في المطار (إبان فترة الوصاية السورية) وهو يغادر إلى روما متى ستزور قصر المهاجرين؟ أجاب: «وأين يقع قصر المهاجرين؟» وهو المتقشف في الكلام، وما يقوله تعبير عن   قناعة وطنية، وليس كلاماً عابراً ويومياً.
«لن أذهب إلّا ورعيتي معي» والراعي بالمعنى المجازي هو الحارس الأمين والمتيقظ لكل التفاصيل، المتيقظ للمخاطر والهموم التي تحيط بالرعية ،الحاضر باستمرار للاهتمام والحراسة، والراعي هو الثقة والأمان وسط التهديدات والمخاوف. لم يترك الرعية حتى ولو من أجل مرافقة رأس سلطته الكنسية البابا يوحنا بولس الثاني الى سوريا عام ٢٠٠١ يوم كان جيشها يهيمن على الأرض والقرار والنفوس في لبنان، لم يخذل الرعية فكان الرفيق الدائم والمطمئِن في الصعوبات. هذا هو البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، رجل الإستقلال الثاني، والضنين على السيادة والذاكرة والهوية والتاريخ والجغرافيا. 
بعد 5 سنوات على رحيله، ليس خفياً أنّ لبنان يحتاج لهذه الهامات العالية، كالبطريرك صفير. فلو نتخيل صفير جالساً اليوم على كرسيه، لسمعناه يقول «لا للإستقواء بالسلاح ولا لتأجير البلاد ولا لصنع الحروب العبثية». لقد رحل البطريرك صفير عام ٢٠١٩، رمز الكلمة الحرّة والمثابرة وترك وراءه فراغاً واسعاً في بكركي، حيث  «مجد لبنان أعطي له». وقد امتدّ هذا المجد طيلة ٢٥ عاماً منذ ١٩ نيسان

١٩٨٦ في خضم الحرب الأهلية وبقي في سدة كرسي البطريركية حتى تاريخ تنحيه في ٢٥ آذار ٢٠١١ ليخلفه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي. وهو كان الحاضر الدائم في وجدان الرعية واللبنانيين حتى بعد وفاته.

عراب ثورة الأرز 
لعب البطريرك صفير دورًا بارزًا في السياسة اللبنانية، وساهم البطريرك مع الرعاية الدولية المتمثلة بالولايات المتحدة والفاتيكان والرعاية العربية المتمثلة باللجنة الثلاثية التي كانت تضم السعودية والمغرب والجزائر بإنهاء الحرب اللبنانية.  

وفي العام ٢٠٠٠، رعى البطريرك صفير المصالحة في الجبل مع رئيس حزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط. وكانت هذه المبادرة الأولى من نوعها في لبنان، حيث سعت إلى إعادة قراءة ماضي الحرب الأهلية وتنقية الذاكرة الجماعية. وهدفت إلى  بناء جسور التلاقي والمصالحة وإعادة الثقة بين المسيحيين والدروز في جبل لبنان.

 وهو من أطلق في أيلول من العام ٢٠٠٠  النداء التاريخي الأول للمطارنة الموارنة الذي دعا لخروج القوات السوريّة من لبنان الأمر الذي تحقّق في ٢٦ نيسان ٢٠٠٥، تزامناً مع «ثورة الأرز» حيث قال في حينه «نحن لانطلب المستحيل» لأنّه كان يعرف أنه يطلب ما لا يتجرأ الآخرون على البوح به عالماً بأنّه ينطق بما يختلج في نفوس غالبية اللبنانيين، الطامحين إلى الإستقلال والحرية.

عراب الطائف
لم يقتصر دور صفير على تحقيق الإستقلال من الوصاية السورية، إنّما منذ بدء الحرب الأهلية، كانت لصفير مواقف بارزة عرّضته أحياناً للإهانة والتطاول على شخصه ومكانته وما يمثله. فقد كان صفير داعماً لاتفاق الطائف، من أجل وضع حدّ للحرب الأهلية. ووفقاً لما جاء في كتاب: «حارس الذاكرة » من يوميات البطريرك المرافقة لاتفاق الطائف، اعتدى بعض المتظاهرين على البطريرك الراحل، وكان ذلك بعد حرب التحريرالتي خاضها الجنرال عون آنذاك مع الجيش العربي السوري في لبنان.  ومع ذلك بقي صامدًا راسخاً ومثابراً في رؤيته وموقفه بحكمة وروية وصلابة قل مثيلها، مؤمناً بأنّ ما يقوم به  هو الصحيح لخلاص لبنان.
عراب المواقف الحادة 
وكان لصفير مواقف مهمّة تعنى ببعض التدابير الداخلية، ومنها إعتراضه على إنتخاب حليف دمشق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية عام 1988، ومن ثم إعتراضه على الإتفاق السوري الأمريكي على انتخاب النائب المقرب من سوريا مخايل الضاهر لرئاسة الجمهورية. 
وسبق واعترض صفير على خطوة رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل، في آخر ربع ساعة من عهده، بتكليف العماد ميشال عون قائد الجيش آنذاك تشكيل حكومة انتقالية. 
قوبلت مواقف صفير بانتقادات عدّة، خاصّة من حلفاء سوريا. إذ، أعلن صفير، خلال عهده، علناً إعتراضه على سلاح حزب الله في لبنان، مكرّراً، أنّ بقاء سلاح حزب الله لا يقبل به أحداً، وعلى الجميع يجب أن يكونوا متساوين تحت سقف القانون وسلطة الشرعية اللبنانية. 
لا يخفى على أحد أنّه منذ إنتخابه في العام ١٩٨٦ ، كان من النادر أن تمرّ عظة البطريرك الاسبوعية أو بيان المطارنة الشهري مرور الكرام، فمواقفه كانت تفعل فعلها في  قلب المشهد السياسي اللبناني.

وقد سجل البطريرك الماروني مواقف اعتراضية حادة على قوانين الانتخابات التي وضعت بعد الحرب خلال عهد الوصاية  في العام ١٩٩٢ وقاطعها معظم الشارع المسيحي آنذاك. 

نبذه عن مسيرته الكهنوتية:

لقد درس صفير اللاهوت والفلسفة،  وفي 7 أيّار 1950، سيّم كاهناً، وعيّن خادماً لرعيّة ريفون وأمين سرّ أبرشيّة دمشق (صربا اليوم) حتى 1956، حين عينه البطريرك المعوشي أمين سر البطريركية. رُقيّ للدرجة الأسقفية وعين نائباً بطريركياً عاماً في 16 تموز 1961. وكان عضوًا في اللجنة الأسقفية عام 1974 التي سيّرت شؤون البطريركية بسبب مرض البطريرك المعوشي، الى حين انتخابه بطريركًا عام 1986. رحل البطريرك مار نصرالله بطرس صفير عن 98 عامًا. 

من أقواله: 
«لن أزور سوريا الا وطائفتنا معنا، وهذا الأمر صعب في ظل توجس المسيحيين من النظرة السورية الى لبنان، ما الذي تغير لأزور دمشق اليوم؟ عندما كانت سورية هنا لم نذهب»
«وجود الموالاة والمعارضة في الحكومة كعربة يجرها حصان الى الامام وآخر الى الخلف»
«نرى أهل السياسة في الحكم وخارجه يتراشقون كل يوم باقذع النعوت بدلاً من أن يتكاتفوا ليبحثوا في أنجع الوسائل لإخراج البلد من محنته الطويلة»
«لقد قلنا ما قلناه»
«هم يقولون ونحن نقول»
«نحن من أنشأنا لبنان ولن نكون غرباء فيه»

«أنا تراب منه جبلت وإليه أعود»