ماليّة الدولة لنبيّها
ماليّة الدولة لنبيّها
وزارة المال، حاكم مصرف لبنان، والمدعي العام المالي، جميعهم في جعبة برّي. وأصبح القرار النقدي والمالي في عين التينة.
يوم جيء برياض سلامة حاكم للمصرف المركزي، كان القرار بخلق نظام نقدي ومالي، يخدم القلة على حساب المجتمع. الرجل الآتي من خلفية محاسبية - شغل منصب نائب الرئيس ومستشار مالي لشركة «ميريل لينش» المالية، قبل قدومه إلى لبنان – وكان الأنسب لخلق آليات محاسبية وإحتيالية، وبناء ثروة له ولعائلته ولسياسيين وأزلامهم، بطرق مقوننة، لم تلحظها شركات التدقيق الدولية، أو ربما لم ترِد ملاحظتها.
كان سلامة أحد رجال النظام المشكّل حديثاً بعد الحرب، تتزعمه ترويكا الحريري- بري- جنبلاط، وبغطاء من الوصاية السورية. وحتى لحظة الإنهيار، بقي سلامة صديق ومدلل الترويكا ومن ورثها من أبناء الحريري وجنبلاط. إلى أن وقع سلامة، ووقع البلد معه، بنظامه المالي، وثروات الأجيال.
في تموز 2023، خرج رياض سلامة من المصرف المركزي، بالطبل والرقص ونثر الأرُز، وورثه بالوكالة نائبه وسيم منصوري. خرجت تسريبات إعلامية يومها تفيد بأنّ منصوري إصطدم للمرة الأولى مع رياض سلامة وحكومة حسان دياب عند تعيينه النائب الأول لسلامة عام 2020، بسبب إعتراض منصوري على مقترح سلامة وحكومة دياب إستخدام إحتياطي مصرف لبنان لتوفير الدعم للإستيراد وتسديد رواتب الموظفين. في المؤتمر الصحفي الأول له عقب تسلمه مهامه بصفته حاكم بالإنابة، قال منصوري «لن يتمّ توقيع على أي تمويل الحكومة إطلاقاً خارج قناعاتي أو خارج الإطار القانوني»، مشيراً إلى أنّ «المسألة ليست نقدية والحل ليس في المصرف المركزي، بل في السياسة المالية للحكومة، ويقتضي أن يتمّ وبوضوح إتخاذ قرار لتفعيل عمل الإدارة العامة أي تحسين الجباية».
بعد 9 أشهر على تعيينه، حافظ منصوري على قراره بعدم تمويل الدولة، لكنه يؤمن الدولارات لدفع رواتب القطاع العام، ويكمل نهج سلفه رياض سلامة. يحتفي منصوري اليوم بقدرته على تثبيت سعر الصرف، لكن هذا الثبات بدء في الشهرين الأخيرين قبل خروج سلامة، لكنه حصل على غطاء من برّي لتنفيذ آلية التثبيت، فيما التضخم وصل إلى 70 في المئة، يعني أنّ القدرة الشرائية لليرة غير ثابتة. وبالرغم من أنّه أعلن توقّفه عن تمويل الدولة، لكنه يقوم بدفع رواتب القطاع العام. وتشير المصادر أنّ منصوري يسعى ألّا يُقال أنّ في عهده ازدادت الأمور سوءاً، وتحديداً لأنّه محسوب على بري، ومن شروطه لاستلام الحاكمية بداية، كان تثبيت سعر الصرف.
بحسب الصحافي الاقتصادي منير يونس أن التثبيت منع الدولة من إنفاق ما تجني، ويقول في حديث لـ «بيروت تايم» في حساب الـ 36، وهو حساب الحكومة، هناك جبايات بالليرة تساوي نحو مليار دولار، ويفرض مصرف لبنان ضوابط شديدة على الإنفاق العام كي لا تتسرّب هذه الليرات بكثرة إلى السوق، وتشكل عامل مضاربة على الدولار، والخطأ في هذه الآلية يكمن في ضعف الإنفاق العام، في الوقت الذي باتت فيه إحتياجات البلد كبيرة جداً، من ناحية الإنفاق الإجتماعي على الصحة والتعليم، وأيضاً الإنفاق الإستثماري على البنى التحتية، وبالتالي ما يقوم به «هو ضبط الكتلة النقدية بين 50 و55 تريليون ليرة، أي قرابة 600 مليون دولار فقط، ويمنع الدولة من إنفاق الليرات التي تجبيها».
قام منصوري بتثبيت سعر الصرف، من خلال سياسة تقشفية، باستخدام الأموال التي تُجمعها الدولة من الرسوم والضرائب. ومنع الدولة من الإستدانة واستخدام العائدات الضريبية، ذلك بالإتفاق مع وزير المالية يوسف الخليل، ويتمّ إستخدام السياسة المالية، أي الضرائب والرسوم، لسحب الدولارات من التداول في السوق. وبحسب الكاتب الإقتصادي علي نور الدين في حديث لـ «بيروت تايم»، لم يكن من الممكن أن يقوم منصوري بتنفيذ هذه السياسة دون غطاء من المنظومة الحاكمة، والأهم أنّ هذه السياسة غير مستدامة على المدى البعيد، حيث لا يمكن أن تبقى الإدارات الرسمية مغلقة، ولا توجد سيولة لتسيير المرافق العامة، والمساعدات الإجتماعية تدفع بالتقسيط، ولم يتمّ تصحيح سقوف الإعتمادات التي تعطى للإدارات العامة.
ما يحصل اليوم أنّ السياسة المالية تعمل لخدمة السياسة النقدية، أي أنّ الدولة وأموالها وموظفيها كلّها في خدمة مصرف لبنان. ومن يتحمل نتائج هذه السياسات هي الدولة، المتمثلة بالموظفين وأجورهم التي لم تصحح واقتصر الأمر على المساعدات الإجتماعية، وهي متدنية جداً مقارنةً بالتضخّم في السوق. والجدير ذكره أنّ الناس يصدقون أنّ الدولة مفلسة ولا يمكن تصحيح الأجور، فيما سجلت الموازنة فائض من العام الماضي تفوق الـ 1.11 مليار دولار بحسب آخر أرقام المصرف المركزي، ويمكن تصحيح الأجور والخدمات العامة، لكن الأولوية تعطى للسياسة النقدية وليس المالية.
تربط بري بمنصوري علاقة قوية، فهو كان محامي بري الشخصي، وفي عهد رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام، عُيّن وسيم منصوري محامياً لوزارة المالية عام 2014، وبقي حتى تعيينه نائباً لحاكم مصرف لبنان عام 2020. وفي المتعارف عليّه أنّ النائب الأول من حصة الشيعة، طرح برّي إسمه وحصل التعيين.
في الميزانية التي أصدرها مصرف لبنان في شباط 2023، أضيف 16.5 مليار دولار بمثابة دين جديد على الدولة لصالح المصرف، وهي أموال متراكمة منذ عام 2007، ونتيجة لتبدّل سعر الصرف من 1500 إلى 15 ألف. والأموال تلك هي الدولارات التي اشترتها الحكومة من مصرف لبنان، واتخذ سلامة قراراً بتسجيل هذه العمليات على أنّها ديون على الدولة ضمن حسابها الجاري في المصرف. ومع تغيّر سعر الصرف، إحتسب المبلغ على سعر 15 ألف، ليسجل دّين جديد على الدولة، وقد رفض وزراء المال السابقين غازي وزني وعلي حسن خليل الإعتراف بهذا الدين، فيما اعترف منصوري به، وتقول المصادر أن عين تينة تضغط على وزير المال يوسف الخليل للقبول به، من خلال علي حسن خليل، القابض على وزارة المال من مستشارين والادارات.
هذه ليست المرة الأولى التي ينفذ بها منصوري رغبات بري، عام 2022، وافق مجلس الوزراء على خطة طوارئ وطنية، كانت تطمح لرفع التغذية الكهربائية تدريجياً إلى 8-10 ساعات يومياً. وهذا ما كان يتطلب سلفة خزينة بـ 600 مليون دولار، لم يوافق المصرف سوى على مبلغ 300 مليون دولار، ما اضطر إلى خفض التغذية إلى 4-6 ساعات يومياً. وجاء تبرير المصرف المركزي أنّه يرفض المسّ بالإحتياطي من دون إجازة من مصرف لبنان، لكن امتناع مصرف لبنان عن تحويل أموال وزارة الطاقة إلى دولار، كان بطلب من نبيه بري، ومن تنفيذ منصوري ، لأنّ الطاقة محسوبة على التيار الوطني الحر ولا يريد تقديم خطوة تُحسب للتيار.
في جعبة بري اليوم السلطة المالية والنقدية، عبر وزير المال يوسف الخليل، وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، والمدّعي العام المالي القاضي علي ابراهيم، الذي قال في نيسان 2020 «أسند ظهري على جبال. والرئيس بري قال أيضاً الوزير الذي لن يحضر الى مكتب المدّعي العام المالي سيُحاسب»، فيما لم يدخل ملف إلى مكتب إبراهيم، إلّا وبقي في أدراجه، ولم يكشف أي مخالفة مالية نزولاً عند رغبة سلامة ولاحقاً عند رغبة منصوري، وقام بتغطية المخالفات والصفقات، ومنها تعديات مرافق بري على الأملاك العامة في الجنوب، وملفات أخرى مثل منع باخرتي انتاج كهرباء تركيتين من مغادرة لبنان، بسبب وجود سمسرات وعمولات، وتجميده الإدّعاء على شركة سوليدير بجرم الإستيلاء على الأملاك العامة، وغيرها من الملفات.
واللافت أنّ إبراهيم هو عضو في هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، التي يرأسها وسيم منصوري والتي لم تناقش حتى الآن ملف التدقيق الجنائي الذي أعدته شركة «الفاريز ومارسال»، ولا في نتائج تحقيق «كرول»، ويقتصر تواصل منصوري مع القضاء بشخص القاضي إبراهيم فقط، وليس القضاء ككل، وقد هددت القاضية غادة عون برفع دعوى على مصرف لبنان في حال لم يستجِب للقضاء.
وعلى الرغم من ولاء منصوري لبري، تؤكد المصادر أن الولايات المتحدة الأمريكية طلبت من منصوري يوم تسلّم الحاكمية، الإعتراف بجميع العقوبات التي ستفرضها على شخصيات لبنانية، وهذا ما حصل، رغم أنّ هذه العقوبات تطال شخصيات سياسية ومالية مقربة من الثنائي الشيعي، أو تنتمي إليه، وآخرها العقوبات على الإقتصادي حسن مقلّد ونجليه.
فرض العقوبات الاميركية يجري بالتنسيق مع بري، تقول المصادر، فيوم أقفل مصرف الجمّال، حصل التنسيق بين بري وسلامة، لتصفيته لان المصرف على لائحة العقوبات، لان لدى بري موظفين محسوبين عليه، وأراد تسوية أوضاعهم.