دعوى مؤجلة «ضد حكومة»... لا تؤجل أياً من جرائمها!

دعوى مؤجلة «ضد حكومة»... لا تؤجل أياً من جرائمها!

  • ٠١ حزيران ٢٠٢٤
  • فتاة عيّاد

خلال أسبوع واحد، تلقى اللبنانيون خبر وفاة الطفلة نسرين عز الدين في باص المدرسة جراء فجوة فيه، فيما وزير التربية عباس الحلبي لم يكلف خاطره بتغريدة تعزية. أما مؤسسة كهرباء لبنان، فتتمسك برفض إزالة مواد خطرة قابلة للاشتعال في معمل الذوق الحراري، لتخاطر المنظومة من جديد بأرواح اللبنانيين، إذ لم تكفِها جريمة انفجار مرفأ بيروت عام 2020... و«لو حدث أو وقع مثل هذا الحادث في أي مكان في العالم يُحترم فيه الإنسان لكانت استقالت الحكومة على الفور، وحوكمت، وأدينت لقاء إهمالها». يقول أحمد زكي بدور المحامي مصطفى في فيلم «ضد الحكومة».

«إنّها ليست قضية مدرسة أو مجموعة من التلاميذ الذين وقع حظهم التعس في قبضة سائق متهور في صدفة عمياء أودت بحياة 20 فتى أو فتاة من أنبه أبنائنا. القضية يا سادة أخطر من ذلك بكثير. إنّها قضية بلد بأكمله. نخر السوس أعمدته وأوشك بنيانه على السقوط» يقول أحمد زكي في فيلمه «ضد الحكومة» بدور المحامي مصطفى، مخاصماً وزراء التربية والنقل، ومطالباً إياهم بالمثول أمام العدالة كمتهمين والتحقيق معهم، بتهم الإهمال والتقصير في أداء واجبهم، طالما أنّهم لهم علاقة بهذا الحادث المروع، وطالما أنّهم لم يهتزّ لهم جفن ولم يقدموا استقالاتهم حتى الآن. 
وفي حين لم يكلف وزير التربية اللبناني عباس الحلبي نفسه بتغريدة يترحم فيها على الطفلة اللبنانية نسرين عز الدين، التي سقطت في فجوة أوتوبيس مدرستها منذ أيام، تصبح قضية «أوتوبيس الموت» في الفيلم، الذي يجسد فساد حكومة بأكملها، محاكاة لقضية موت نسرين التي قتلها نظام الفساد والجريمة اللبنانيّ.
«لو عندِك ولد راح في الحادثة كنتي فهمتي».. يقول المحامي مصطفى لزميلته المحامية سامية (لبلبة)، مبررا تحوّل مرافعته في قضية التعويضات على الوفاة، من تحصيل مبلغ مالي يبغي منه الربح، لمخاصمة حكومة بأكملها. إلا أنّ الأهم كان تحوّله هو نفسه لدى معرفته بإصابة إبنه في الحادث، من محام ٍفاسد يستغل قضايا التعويضات، إلى محام يحمّل النظام بأكمله مسؤولية موت أطفال في باص مدرسي، فيواجه منظومة قاتلة، ليحاسب من تسببوا بمأساة ابنه. 
أم الطفلة اللبنانية نسرين عز الدين، التي لم يتحمل قلبها موت ابنتها بعد انزلاقها في فجوة في الباص المدرسي، ليدهسها سائق الباص دون قصد وتنتهي حياتها منذ يومين، ماتت بعد موت ابنتها بساعات، هي أكثر من فهم شعور الحاجة للمحاسبة والعدالة والتشفي من نظام فساد قاتل، لكنها ربما ماتت بحسرتها، لمعرفة مسبقة منها بأنّه في لبنان لا محاسبة ولا عدالة، وبأنّ الدعوى الحقيقية ضد النظام الفاسد الذي قتل ابنتها، هي نفسها دعوى مؤجلة، ضد منظومة لا تؤجل أيا من جرائمها.

جميعنا ضحايا... وجميعنا صامتون
وفي لبنان جميعنا ضحايا محتملون. لنظام الفساد القاتل. من الطفلة ماغي محمود التي سقط عليها جدار مدرسة الأميركان في طرابلس، إلى المغني جورج الراسي الذي مات في حادث سير نتيجة فساد تلزيم الطرقات، وقبله العشرات عند نقطة الحائط الاسمنتي الفاصلة ذاتها على الطريق الدولي للحدود اللبنانية السورية، إلى ضحايا الرصاص الطائش الذين لم يحاسب على قتلهم أحد. 
وهذا ما أثبته انفجار 4 آب الذي أسقط أكثر من 200 ضحية. فكل منا، كان يمكن له أن يكون ضحية الفساد والإجرام في ذلك اليوم. ومهما حاولت المنظومة أن تصوّر إبقاء كمية 2400 طن من نيترات الأمونيوم في المرفأ، لسبع سنوات، على أنّه إهمال، لتزيل عنها صفتي الفساد والإجرام.
واليوم هناك جريمة «على الطريق» نشهد عليها جميعا، تتمثل بالإبقاء منذ سنوات على مواد خطرة، في حالة توضيب مخالفة للشروط العلمية في معمل الذوق الحراري، ورغم التحذيرات المتكررة، منذ أشهر، التراخي الكبير في الملف، إنما هو تراخٍ في الحرص على أرواحنا. 

القضاء اللبنانيّ... آخر الحصون
«سيدي القاضي أصبح معروفاً أنّ القضاء المصري هو الحصن الباقي والأخير، فأنا أهيب بعدالتكم ألا نفلت من أيدينا هذه الفرصة. وإذا كان السادة الوزراء قد رفضوا المثول أمام عدالتكم، فهذا يعني أنّهم لا يحترمون القضاء». يقول أحمد ذكي في مرافعته الثانية في الفيلم.
وهل تذكرون مقولة رئيس مجلس النواب نبيه بري، بأنّ «الضعيف يلجأ للقضاء؟». هكذا هي المنظومة، محصنة من القضاء اللبناني، وإذا كان القضاء المستقل العادل آخر حصون قيام الدولة في لبنان، فهذا يعني أنّ قيام الدولة برمته، معلق عند محاسبة من لا يخضعون لنظام العدالة.
وحتى رئيس الحكومة السابق حسان دياب، غير المدعوم شعبياً، ولا على مستوى دعم طائفي أو حزبي، هذا الرئيس «الضعيف» في معايير الخطوط الحمر الطائفية، هبّت دار الفتوى لمنع استجوابه قضائيا في قضية انفجار مرفأ بيروت، خشية من تكريس محاسبة رئيس وزراء، تكون محاسبته مقدمة لمحاسبة رؤساء حكومات سابقين أو لاحقين. فهل أنّ أرواح اللبنانيين رخيصة إلى هذا الحدّ لدى المرجعيات الدينية؟ أم أنّ أرواح المسؤولين أغلى؟
وكل الموقوفين «الصغار» في القضية تمّ إخراجهم من السجن قبل محاكمتهم، بجهد من مدعي عام التمييز السابق غسان عويدات، الذي نسف تحقيقات القاضي العدلي طارق البيطار، فيما المطلوبون الأساسيون، الوزراء المسؤولون، علي حسن خليل، ويوسف فنيانوس، ليسوا هاربين من العدالة وحسب، بل فوق القانون والعدالة.

كلنا فاسدون... 

«كلنا فاسدون .. كلنا فاسدون لا أستثني أحداً، حتى بالصمت العاجز الموافق قليل الحيلة» يقول المحامي مصطفى في مرافعته الأخيرة في فيلم «ضد الحكومة».  فهو نفسه كان فاسدا، قبل أن يصطدم بحادثة جرح ابنه بأوتوبيس الموت. حينها فقط، استيقظ ضميره الميت، وبات محاميا عن ابنه وشعب بأكمله مقابل نظام فاسد.
يقول في مرافعته «أعترف أمامكم أنّني دخلت هذه القضية طامعاً فى مبلغ تعويض ضخم لكنني اصطدمت بحالة خاصة شديدة الخصوصية، جعلتنى أراجع نفسي موقفي وحياتي وحياتنا، اصطدمت بالمستقبل». 
ولم يكن المحامي يقصد بالمستقبل سوى ابنه، الذي «رأيت فيه المستقبل الذى يحمل لنا طوق نجاة حقيقي، رأيتنا نسحقه دون أن يهتز لنا جفن، نقتله ونحن متصورون أن هذه هي طبائع الامور».
تماما كما يوارى ضحايا النظام في لبنان الثرى، ويطلق عليهم إسم ضحايا القضاء والقدر. وهنا نسأل: هل خيارات الناس في صناديق الاقتراع هي أيضا قضاء وقدر؟ هل تكرار إنتخاب المتسببين بجرائم فساد وإهمال تصل لسقوط أرواح، هو قضاء وقدر، أم فعل فساد؟
أما السؤال الأصعب، فهو: متى يدرك اللبناني المستفيد من نظام الفساد، اللبناني الفاسد، المرتشي، الزبائنيّ.. أنه مساهم في نظام يتخطى الفساد إلى الجريمة؟ وأنه بفساده هذا يدمر مستقبل أبنائه؟ يقال أنّ الولد هو أغلى ما يملك الإنسان. لكن يهون الولد لأجل الزعماء في لبنان. وهذه أيضا جريمة.

جيل المستقبل خلاصنا

لهذا ربما، يقول أحمد زكي «كلنا فاسدون»، مطالبا بمحاسبة المسؤلين الحقيقيين، عن قتل عشرين تلميذا لم يجنوا شيئا سوى أنّهم ابناؤنا».
ويكمل «لست صاحب مصلحة خاصة، وليست لى سابق معرفة بالشخوص الذين اطلب مسائلتهم، ولكن لدي علاقة ومصلحة فى هذا البلد، لدي مستقبل هنا اريد ان احميه انا لا ادين احد بشكل مسبق، ولكنى اطالب المسئولين عن هذه الكارثة بالمثول امامكم فهل هذا كثير؟ أليسوا بشرا خطائين مثلنا اليسوا قابلين للحساب والعقاب مثل باقى البشر». وتعيد هذه المرافعة الحكام الفاسدين إلى مصاف البشر الخطائين. بعد أن تم تأليههم وباتوا فوق العدالة والمحاسبة.
سيدى الرئيس. أنا ومعي المستقبل كله نلوذ بكم ونلجأ اليكم. فاغيثونا .. اغيثونا. يختم أحمد زكي مرافعته. والسؤال: لمن يرفع اللبنانيون إغاثتهم اليوم، تجنبا من جرائم جديدة؟ لمن يلجؤون مثلا لإزالة المواد الخطرة في معمل الذوق الحراريّ؟ ولمن يلجؤون لإيقاف جرائم مقبلة جديدة، هم أنفسهم لا يعلمون بها؟
وإن كان هناك من عبرة من فيلم «ضد الحكومة»، فهو ضرورة أن يحاسب المجرم الأصيل، النظام نفسه، وألا يكتفى بمحاسبة الوكيل، الفاسدون الصغار. إلا أنّ هذا التحوّل لا يتحقق دون تجريد الشعب من ملكة الفساد التي تجعله صامتا عن فساد زعمائه الذين يؤلههم. ويبقى القضاء المستقل في لبنان، الذي يجعل الجميع «تحت القانون»، فيردّ للقانون هيبته، وللعدالة مجراها، طوق النجاة من فسادنا جميعنا، وخلاصنا الوحيد وأبناءنا، مستقبل هذا الوطن، إن كان لا بدّ له من «مستقبل»...