جيل «ما بعد الحداثة» ووداع الصحف

جيل «ما بعد الحداثة» ووداع الصحف

  • ١٧ حزيران ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

أبعد من «المعركة السيادية» وصحافتها المندثرة، يُنذر الإغلاق الأخير لصحيفة «نداء الوطن» بموت الصحافة المكتوبة ككل، بل بتدني مستوى ما تبقى منها في لبنان، وبلوغه حدّ الرتابة غالباً، وحدود الوضاعة أحياناً أخرى.

في أيلول 2012، كان يمكن لمن يتصفح جريدة «الأخبار» و«البلد» أن يرى«معركة» صحفية ضروس وشيقة بين «أبناء العم». إبراهيم الأمين، الممانع المتعصب، يكتب ضد الصحفي علي الأمين، فيرد عليه الأخير بقسوة ووضوح. وهكذا، تنافس هؤلاء في الكتابة والقلم والنشر، في مقالات عديدة لم تخرج عن المنطق والحجة، ولامست حتى، في بعض الأحيان، حدود الأدب العميق والكلمة الذكية. 

ما علينا، أغلقت جريدة «البلد» منذ زمن طويل، فيما باتت «الأخبار» عبارة عن مجموعة كلمات مصفوفة لا تنفك تكرر نفسها وتبشّر بـ «زمن المقاومة»، مع «رشة» مقالات منوعة لأمثال الشيوعي الغاضب أسعد أبو خليل، أو ردود على مقالة قديمة لصفية أنطون سعادة تخبرنا فيها عن فلسفة والدها ومدرحيته التي رذلها «السوريون».

قد يكون توقّع المؤلّف الكندي «روس داوسن» صحيحاً فعلاً، وهو الذي قال يوماً إنّ الصحف الورقية ستنقرض في المستقبل القريب، وسيكون أجل آخرها عام 2040. قد لا نضطر للإنتظار إلى تلك السنة، فالدنيا تتغيّر بسرعة، وكذلك هي الصحافة. هل يعتقد كُثر أنّ شاباً أو فتاة في لبنان، في ريعان عمرهما، يشتريان جريدة صباح كل يوم، ليتصفحا مقالة من هنا أو تحقيقاً صحفياً من هناك؟ فلنستفق من الغيبوبة، قلة قليلة تكترث لعالم الكلمة المكتوبة، وهؤلاء، بمعظمهم، من التقليديين وكبار السن.

يروي الصحافي المرموق، غسان التويني، في كتابه «حوار مع الإستبداد»، كيف أنّ مقالة صحفية في الخمسينيات كان يمكن أن «تهز حكومات»، وكيف يمكن لكلمة أو «مانشيت» أو جملة واحدة أن تستدعي تغيير سياسات حكومية أو إجراءات إدارية أو حتى تُطلق مظاهرات شعبية. هذا الزمن انتهى إلى غير رجعة، إذ لا يكترث الشباب، أو «وقود المجتمع» على ما تقول الحكمة الصينية، لكل ذلك.

جيل «ما بعد الحداثة» لا يكترث لكل المطولات والمقالات والمجلدات والعقائد والصلوات وزمن الأسلاف، بل يكترث للسرعة، المنطق والصورة المبهِرة. مقالاتنا، نحن معشر «الكتاب»، باتت «دقة قديمة»، فيما تم استبدالنا بال«Reels»، بما تقدمه من سرعة وابتكار ودقة، كما حماسة للمتلقي، أو ربما استبدلنا بما هو أسوأ وأشد صلافة؛ مجموعة على تطبيق «واتساب» تنشر الأخبار العاجلة دون تدقيق أو تحقيق.

أما من تبقى من ملّاك الصحف ورؤساء تحريرها، ويريدون أن يصنعوا شيئاً في الغد، فعليهم اللحاق بجيل «ما بعد الحداثة». إنّ كل من لا يُحدِّث خطابه وصورته وأسلوبه سيندثر ويصبح من الماضي. هكذا تعلمنا أمثلة التاريخ قاطبة. كل جماعة، دين، جمعية، حزب، شخص أو صحيفة متعلقة بالماضي وأدواته فقط، سيكون مصيرها الأفول والفشل. من يريد أن يصنع الغد، عليه أن يستخدم أدوات الغد. الركون في كل شيء إلى ما هو كلاسيكي، ممل رتيب ومضجر، وطبعاً غير مفيد.

في ظل هذا التحوّل السريع، تتغير أساليب التفاعل والتواصل بين الناس. لقد أصبحت وسائل التواصل الإجتماعي بمثابة المصدر الرئيسي للأخبار والمعلومات، متخطية الصحف التقليدية بسرعة فائقة وبنسبة مهولة. فبحسب دراسة نشرها مركز أبحاث «PEW» عام 2021، بلغ عدد الناس الذين يحصلون على الأخبار من خلال وسائل التواصل الإجتماعي 53 في المئة، يليهم 35 في المئة من شاشات التلفزة، فيما نسبة من يحصل على الأخبار من الصحافة المكتوبة فلم تتعدَ الـ5 في المئة فقط.

في هذا السياق، يتعين على الصحافيين اليوم أن يكونوا أكثر إبتكاراً ومرونة، ليتماشوا مع متطلبات العصر الرقمي، وإلا اندثروا، وهذا حال العديد من الصحفيين والصحف التي مانعت الخروج من قالبها الكلاسيكي المضجر إلى رحاب العالم الرقمي. التكيف مع التكنولوجيات الجديدة، وفهم أعمق لسيكولوجية الجمهور الرقمي، وتطوير محتوى متنوع وجذاب بصيغ متعددة كالفيديو و«البودكاست»، كلها أمور باتت ضرورية للبقاء وتأمين الإستمرارية.

إلى جانب ذلك، ينبغي على الصحف أن تضع خططاً استراتيجية تواكب التحولات الإجتماعية والتكنولوجية. قد يشمل ذلك التعاون مع منصات التواصل الإجتماعي، أو مشاهير، والإستفادة من البيانات الضخمة لتحديد إهتمامات الجمهور، وتقديم خدمات إخبارية مخصصة لكل فئة عمرية وإجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تعزّز المؤسسات الصحفية من مصداقيتها وتتحرى الدقة في ما تنشره، خاصة في زمن يزايد فيه انتشار الأخبار الزائفة والشائعات بسرعة البرق.

في وداع «نداء الوطن» وأخواتها القادم لا محالة في المقبل من الأيام، يبقى الرجاء في قدرتنا على اللحاق بجيل «ما بعد الحداثة»، لا أن نتمنى أن يلحق هذا الجيل بنا... فلا نستكمل ندبنا لحالة ثقافة «شبيبتنا» وصحافتنا، التي ما عادت، أصلاً، مؤثرة فعلاً في معظم الأحداث والأشياء من حولنا.