كيف غيّر غوارديولا مفاهيم كرة القدم؟!

كيف غيّر غوارديولا مفاهيم كرة القدم؟!

  • ٢٧ حزيران ٢٠٢٤
  • محمد فوّاز

كانت رحلة بيب غوارديولا عبر عالم كرة القدم واحدة من الإبتكار المستمر، والبراعة التكتيكية، والنجاح الذي لا مثيل له. لقد غيّرت فلسفته وأساليبه كيفية لعب اللعبة وفهمها إلى الأبد.

لم يحرز المدرّب - النجم بيب غوارديولا ألقاباً وبطولات فحسب، لكنه غيّر شكل كرة القدم ككل وغيّر رؤيتنا لما هو ممكن في اللعبة الأكثر شعبية، إذ يعتبر تأثيره في كرة القدم قصة من الإبتكار، والتحوّل، والسعي المستمر نحو الكمال. منذ أيامه الأولى في برشلونة حتى فترة عمله الحالية في مانشستر سيتي، قام غوارديولا بإحداث ثورة في تكتيكات وفلسفات اللعبة، واضعًا معايير جديدة للأجيال المستقبلية.
في مرحلة كان فيها غوارديولا ذلك المدير الفني الشاب الذي فاز بدوري أبطال أوروبا مرتين وغيّر الطريقة التي تُخاض فيها المباريات، ثم جاءت مرحلة المدير الفني الناضح الذي يعاني من نقطة ضعف واضحة وهي الخوف من الهجمات المرتدة السريعة أمام المنافسين الأقوياء، ثم جاءت الآن مرحلة المدير الفني الذي يحقّق الإنتصارات المتوالية ويعزّز سمعته كأحد أبرز المديرين الفنيين في التاريخ من خلال حصد البطولات والألقاب.
أكثر من مجرد تلميذ ليوهان كرويف ونظام «التيكي تاكا» الخاص به، نجح بيب غوارديولا في خلق طريقة جديدة لرؤية كرة القدم. ولهذا السبب وحده، سيظل دائمًا في تاريخ الكرة. 
في مستهل الالفية الثالثة، مرّت كرة القدم بفترة مملة، وكان المدربون المهيمنون على الساحة هم جوزيه مورينيو، ومارتشيللو ليبي، ورافايل بينيتيز، حتى أنّ اليونان فازت ببطولة كأس الأمم الأوروبية. وبالتالي، كانت اللعبة مستعدة لإحداث ثورة. وكان هناك تحسّن كبير في جودة الملاعب، على وجه التحديد، وفي تقنيات كرة القدم وتكنولوجيات الأحذية التي يرتديها اللاعبون. كما أدى التغيير الذي طرأ على قانون التسلّل والعقوبات الصارمة على اللاعبين الذين يعرقلون المنافسين من الخلف إلى تسهيل مهمة لاعبي خط الوسط المبدعين: ومع تراجع الخطوط الدفاعية إلى الخلف بشكل أكبر، زادت مساحة اللعب، وأصبح من الصعب على الخصوم تخويف صانعي اللعب المبدعين. وكان غوارديولا أول من أدرك أهمية كل ذلك، وأدرك أنّ اللعبة يمكن أن تعتمد بالكامل على التحكّم في المساحات الخالية من الملعب من خلال الإستحواذ المستمر على الكرة.
لكن بالإضافة إلى الإبتكار والإبداع والتأثير، تعتمد كرة القدم بشكل جزئي على الأرقام والبطولات والألقاب - على الأقل بالنسبة لمدربي أندية النخبة. إنّ كرة القدم لها مقياس واضح وموضوعي للغاية لمن يستحق الفوز: إحراز الأهداف. من المؤكد أنّ طريقة اللعب مهمة للغاية، والنتائج في بعض الأحيان لا تعكس الصورة الكاملة، لكن في نهاية المطاف فإنّ اللعبة برمتها تعتمد على تسجيل أهداف أكثر من الخصم، أو على الأقل عدم تسجيل أهداف أقل. 
لقد واجه غوارديولا سوء حظ في بعض الأحيان، وحدث إنهيار لفرقه في بعض المواجهات بشكل لا يمكن تفسيره، لكن الأهم من ذلك كله أنّه إتخذ بعض القرارات التكتيكية المثيرة للجدل وأصبحت المبالغة في التفكير هي نقطة الضعف الأكبر له. وعندما تنجح أفكاره التكتيكية، فإنّ النقاد لا يصفون ذلك بأنّه مبالغة في التفكير، بل يصفونه بأنّه ذكاء خططي.

برشلونة 
بدأت رحلة غوارديولا في التدريب في أكاديمية لا ماسيا التابعة لنادي برشلونة، حيث ظهرت براعته التكتيكية لأول مرة. وعندما تمت ترقيته لإدارة الفريق الأول لبرشلونة عام 2008، ورث فريقًا مليئًا بالمواهب. وهو إستعد لأفضل فترته بالتخلص من رونالدينيو، وديكو، وصامويل إيتو، وترقية اللاعبين الذين ساعد في تلميعهم في الفريق الثاني. هذا بالكاد نجاح على طبق من ذهب. 
قاد غوارديولا برشلونة لتحقيق ثلاثية غير مسبوقة في موسمه الأول، مازجًا البراعة الفردية والفلسفة الجماعية للفريق. وشهدت هذه الفترة هيمنة برشلونة على كرة القدم بأسلوب يعتمد على الإستحواذ، والذي تجسّد بشكل شهير في فوزه بنهائي دوري أبطال أوروبا 2011 على مانشستر يونايتد.
ويبقى في الذاكرة الجماعية باعتباره المدرب الذي قاد ربما أعظم فريق في التاريخ مع نادي برشلونة من 2008 إلى 2012. دخل بيب غوارديولا الأسطورة بتحقيقه سداسية تاريخية عام 2009 في موسمه الأول على دكة بدلاء الفريق الكاتالوني. بينما حطّم العديد من الأرقام القياسية خلال ذلك الموسم، لكن ابن سانتبيدور في كاتالونيا غيّر أيضًا النظرة التي كنا نمتلكها عن كرة القدم بابتكاره لنظام جديد تمامًا.

بايرن ميونيخ
في بايرن ميونيخ، واصل غوارديولا تطوير نهجه التكتيكي، دامجًا الضغط والضغط المعاكس مع أسلوب الإستحواذ الخاص به. قدّم مفهوم الظهير المعكوس، مما يوضح قدرته على إعادة تخيّل الأدوار التقليدية لتحقيق ميزة تكتيكية.
اجتاح البايرن الدوري الألماني وقدّم كرة قدم جميلة في بعض الأحيان. لكنه أيضًا حقق أداءً أقل قليلاً من يوب هاينكس، فقد فاز فقط بالأشياء التي يفوز بها بايرن دائمًا.
قال خلال فترة عمله في البايرن: «أن تكون أفضل مدرب في العالم يعني هراء». لكن ماذا عن أن تكون الأفضل في حقبة، في لحظة زمنية؟ ماذا عن أن تكون أفضل مدرب على الإطلاق؟ وكيف نقيس هذه الأمور الآن؟

مانشستر سيتي
وصول غوارديولا إلى إنكلترا مع مانشستر سيتي شكّل فصلًا جديدًا، حيث واجه في البداية بعض الشكوك. لكن، من خلال التمسك بمبادئه وتكييف تكتيكاته، قاد سيتي إلى تحقيق العديد من ألقاب الدوري الإنكليزي الممتاز واللقب الأول للنادي في دوري أبطال أوروبا، بما في ذلك موسم غير مسبوق بحصيلة 100 نقطة. تميّزت فترته بمزيج من المرونة التكتيكية والتزام لا يتزعزع بأسلوب هجومي يعتمد على الاستحواذ.
كما غيّر غوارديولا أيضًا الثقافة الأساسية للعب، فبعض أجزاء كرة القدم الإنكليزية كانت متحمسة لرؤية فشله، لكنه غيّر كرة القدم على كل المستويات من فرق الحديقة إلى المنافسة النخبوية، إلى تحويل جون ستونز البالغ من العمر 29 عامًا إلى أفضل لاعب وسط إنكليزي في الدوري.
لكن لا يزال من المناسب التأكيد أن فوز غوارديولا بلقب دوري أبطال أوروبا من جديد أكد قيمته الكبيرة في عالم التدريب، تماما كما أن فوز ليونيل ميسي بكأس العالم مع منتخب الأرجنتين أكد مكانته كواحد من عظماء كرة القدم، إن لم يكن أعظم لاعب في تاريخ اللعبة على الإطلاق. وذلك تأكيد على مكانة واحد من أعظم اللاعبين على الإطلاق وواحد من أعظم المديرين الفنيين على الإطلاق.
كان غوارديولا حاضرًا لأكثر من نصف فترة ملكية النادي الحالية، من دون احتساب السنوات الأربع التي قضاها في بناء الفريق على صورته. قاد الفريق إلى 11 من أصل 16 بطولة رئيسية فاز بها النادي في فترة ملكية أبو ظبي. بالتكبير، حقق غوارديولا 45٪ من جميع البطولات الرئيسية التي فاز بها مانشستر سيتي في تاريخه الذي يمتد إلى 143 عامًا. 
لقد حصل غوارديولا على بطولة دوري أبطال أوروبا ثلاث مرات، ليُعادل إنجازات بوب بيزلي وزين الدين زيدان، ويصبح على بُعد لقبين من كارلو أنشيلوتي. لقد كان هناك اعتقاد عام 2011 أن غوارديولا سيواصل حصد الألقاب الأوروبية، لكن حتى بعد توقفه لمدة 12 عاماً (الفارق بين فوزه بآخر لقب له مع برشلونة وفوزه باللقب مع مانشستر سيتي)، فهناك ما يدعو للاعتقاد أنه، في حال استمراره مع سيتي، قادر على معادلة رقم أنشيلوتي، بل والتفوق عليه، خاصة أن سيتي قد بُني وفق فلسفة ورؤية غوارديولا ولديه موارد مالية هائلة وقسم تسويق نجح في عقد سلسلة من صفقات الرعاية المذهلة. باختصار، مانشستر سيتي هو أفضل فريق في العالم حاليا ومن المفترض أن يستمر تفوقه خلال السنوات المقبلة.

تفاوت طبقي
لم يكن لكرة القدم يومًا هذا القدر من التفاوت الطبقي. لم يكن النجاح يومًا ما محصورًا بشدة بين مجموعة مختارة من الكيانات التي لا يمكن التغلب عليها إقتصاديًا، والمدعومة إما بتاريخ ثقافي ممول بقوة أو بأموال دولة لا حدود لها. ولأجل هؤلاء، النجاح والبطولات هما ببساطة الافتراض.
بهذا المعنى، سرقت كرة القدم الحديثة، بتقنياتها المدعومة بالمليارات، شيئًا من أبطالها، فرصة أن يكونوا عظماء على نفس النطاق الملحمي، للإنتقال من الخارج إلى القمة. بالنسبة للأندية الكبرى، تعتبر النسخة الحديثة من العظمة كونًا أضيق، بتباينات أقل وضوحًاز
لا شيء من هذا هو خطأ بيب. لكنه يعني أنّ مقاييس العظمة يجب أن تتغير. هذه هي المفارقة النهائية لتقييم إرث غوارديولا. لأنّه في النهاية، لا يتعلق الأمر حقًا بالكؤوس. كانت الإنجازات الرئيسية في مسيرة غوارديولا ملموسة وثقافية. فرقته العظيمة كانت، على الرغم من كلّ الموارد المتاحة، إنجازات تدريب وكيمياء وتخطيط تجريدي، تحوّل لاعبي كرة القدم ذوي الجودة العالية بالفعل إلى تجسيدات للبراعة الجماعية.

تأثير يتجاوز الكؤوس
أكثر من الكؤوس، يكمن إرث غوارديولا في كيفية تغييره لنسيج كرة القدم. أسلوب لعب فرقته، الذي يركّز على الاستحواذ والضغط واللعب الموضعي وكرة القدم الهجومية، لم يؤثر فقط في الأندية التي أدارها، بل أيضًا في المشهد الكروي الأوسع. يشير النقاد والمعجبون على حد سواء إلى فترة غوارديولا في مانشستر سيتي كدليل على عبقريته، مازجًا المهارة الفنية بفهم عميق لدقائق اللعبة.
تؤكد فلسفة غوارديولا على استقدام وتطوير اللاعبين المتعدّدي المهارات، وتكييف التكتيكات للتغلب على التحديات المختلفة، والابتكار المستمر. قدرته على تطوير التكتيكات بناءً على اللاعبين المتاحين له والاحتياجات المحدّدة للدوريات المختلفة جعلت من فرقه قوة لا يستهان بها، بغض النظر عن المنافسة.
غالبًا ما يُذكر غوارديولا في المناقشات حول أعظم مدربي كرة القدم في كل العصور، وهو دليل على تأثيره الدائم في الرياضة. تفانيه في لعبة كرة القدم الجميلة، مجتمعةً مع براعته التكتيكية ورغبة لا تشبع في النجاح، لم تمنحه مجموعة رائعة من الكؤوس فقط بل ألهمت أيضًا جيلًا من المدربين واللاعبين. 
سواء كان غوارديولا هو الأعظم في كل العصور أم لا، قد يكون موضوعًا للنقاش، لكن تأثيره في كرة القدم الحديثة لا يمكن إنكاره.
كانت رحلة بيب غوارديولا عبر عالم كرة القدم واحدة من الإبتكار المستمر، والبراعة التكتيكية، والنجاح الذي لا مثيل له. لقد غيّرت فلسفته وأساليبه كيفية لعب اللعبة وفهمها إلى الأبد، مما جعله ليس فقط واحدًا من أنجح المدربين في تاريخ الرياضة، بل أيضًا واحدًا من أكثر الشخصيات تأثيرًا فيها.