حين نصنّف اليمين الأوروبي.. بما نحن عليه!

حين نصنّف اليمين الأوروبي.. بما نحن عليه!

  • ٠١ تموز ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

مدهش كيف نتحوّل كل فترة، ودون أن ندري حتّى، إلى«شركة» تصنيف عابرة للقارات. هذا يميني «متطرف» وهذا يساري «تقدمي» وهذا ليبرالي «زنديق وكافر»، عند كل جولة انتخابات فرنسية وأميركية. لكن المدهش، حقاً، هو وصمنا الآخرين بما نحن عليه، دون أن ندري حقيقة ما نحن عليه وما يجوز علينا من تصنيفات، معظمها سيء ومعيب.


مدهش كيف نتحوّل كل فترة، ودون أن ندري حتّى، إلى «شركة» تصنيف عابرة للقارات. هذا يميني «متطرف» وهذا يساري «تقدمي» وهذا ليبرالي «زنديق وكافر»، عند كل جولة انتخابات فرنسية وأميركية. لكن المدهش، حقاً، هو وصمنا الآخرين بما نحن عليه، دون أن ندري حقيقة ما نحن عليه وما يجوز علينا من تصنيفات، معظمها سيء ومعيب.

مما لا شك فيه أن رواج تعبير «المتطرف» بات لصيقاً باليمين الأوروبي وأحزابه الكثيرة. الأمر جليّ عندما يحاول إعلامنا ومسؤولينا وصف هذه القوى، نتائجها في الانتخابات، أو أفكارها، دون أن يدري أن حجم كل حزب من هؤلاء يساوي سكان بلادنا بمقدار ثلاثة أضعاف أو أكثر، أو أنّ هذه الأحزاب عمرها وعمر نضالها باتت في قرنه الثاني.

وإعلامنا هذا الذي هو، بالمناسبة، مملوك بمعظمه من قوى سياسية لبنانية أغلبها فاشي، عنفي، ومتطرف، أو هو يدور في فلك هذه القوى بشكل أو بآخر. أما أحزابنا، فحدث بلا حرج، حيث تعاستها وعقائدها البالية وقلة ديمقراطيتها واضحة لدى الجميع، أكانوا فيها أو خارجها، غير أنها تتشارك بأغلبها بميزتين أساسيتين: جهوزيتها لتخوين الآخر واستعدادها الدائم لكي تؤتمر من الخارج.

تخيّل، عزيزي القارئ، أن في لبنان حزباً مسلحاً يريد، في نهاية المطاف، إقامة حكم إسلامي مرتبط بإيران، يدّعي الوطنية والشرف والكرامة والبطولة وأمثالها من التعابير العشوائية والفضفاضة، لكنه يصنّف حزب«التجمع الوطني» في فرنسا بأنّه «متطرف». لم يرَ يوماً «حزب الله» نفسه بأنّه متطرف ورجعي ومتزمت، لكنه رأى، مع أغلبية اللبنانيين، أنّ الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب متطرف ورجعي ومتزمت!

تخيل مثلاً أن حزباً لا يليق به إلا لقب «الفاشي»، يريد ضم لبناننا إلى سوريا والأردن والعراق وفلسطين وحتى قبرص، ناهيك عن بعض الجبال والصحاري في تركيا وإيران ومصر، لا غصباً عنا فقط، بل غصباً عن سكان وشعوب هذه الدول والمناطق حتّى. هذا الحزب بالذات يصنف رئيسة الحكومة الإيطالية جورجا ميلوني بـ«الفاشية» و«قلة الوطنية»، هذا فقط لأنّها اقترحت تشديد رقابة أمن بلادها على الحدود لوقف القدوم الدائم للاجئين. فعلاً «اللي استحوا ماتوا»، ولكن لم يستحِ أي حزب «لبناني» بعد. أما ميلوني، فتقوم بواجبها الوطني والتزاماتها الدستورية من أجل سلامة شعبها لا أكثر. 

من الجلي ألا يقول أحد علناً إنّه يريد تقسيم لبنان إلى مناطق طائفية أو مذهبية أو يسعى إلى ذلك، لكن كل معني بحال الجماعات في لبنان، ولو بالحد الأدنى، يعرف أنّ أنصار هذه الفكرة كثر في لبنان، وهم في تزايد مستمر «في هذه الأيام البائسة» على ما كان يقول البطريرك مار نصر الله بطرس صفير. ومن «الطبيعي» أن يروّج هؤلاء لفكرة أن هذا المرشح الأوروبي أو ذاك الأميركي «تقسيمي» و«غير منفتح»، لكن لا يرون البتة بأي حال هم فيها. عجبي! لو طبقنا يوماً قول المسيح «لماذا تنظر إلى القشة في عين أخيك، ولا تبالي بالخشبة في عينك؟» لكان وضعنا في ألف خير.

زحْ منظمات الإغاثة واليونيفل ورابطة كاريتاس وأخواتها جانباً، فإنّ كل الفاعلين في هذا البلد التعيس متطرفون. من منا لا يصنف الناس على قدر مدخولهم المادي وأنواع لباسهم وسياراتهم ومكان سكنهم؟ من منا لم يقُل في سره إنّ طائفة غير طائفته قد تجبّرت عليه؟ من منا شديد الحساسية تجاه تعابيرنا العنصرية والطائفية المقيتة مثلاً؟

مشكلتنا العظمى هي عدم رؤيتنا لحقيقة أنفسنا، وتغطية بشاعتنا وفاشيتنا وعنصريتنا وتطرفنا باللهاث وراء وصف الآخرين. لو اخترع أحد مرآة يمكن للناظر إليها أن يرى فكره لا جماله فقط، لكان معظمنا قد ظهر مشوه الفكر تعيس الخُلق سفيه المبادئ. 

من الأجدى أن نترك عجز جو بايدن جانباً، ونتذكر رئيسنا الأخير العجوز والعاجز عن إحداث أي أثر إيجابي نتذكره به. لا ضرورة لكي ننتقد سطحية أفكار دونالد ترامب ونحن لدينا الكثير من أمثاله ها هنا، وهم يظهرون مزهويين يومياً على شاشات التلفزة بربطات عنقهم الملوّنة. لا ضرورة حقاً للتعاطي بالانتخابات الأميركية والفرنسية التي لا تؤجلها البرلمانات تحت أي ظرف أو أي مسوغ، الأجدى لنا قد يكون تنظيم إنتخابات رئاسية أو نيابية جديدة أو بلدية في لبنان، والتهلي بأنفسنا بعض الشيء، فربما نعبئ فراغ الفكر وفراغ الكراسي ببعض النخب الجديدة التي نحن بأمسّ الحاجة لها.