«مشوار رايحين مشوار»... المنظومة السياسية تضحّي بطلاب جنوب لبنان

«مشوار رايحين مشوار»... المنظومة السياسية تضحّي بطلاب جنوب لبنان

  • ٠٥ تموز ٢٠٢٤
  • فتاة عيّاد

المنظومة السياسية تخاطر بحياة طلاب الإمتحانات الرسمية في الجنوب... وتتغنى ب«إنجازها»

لم تُقتل الطفلة ألكسندرا نجار في حرب إسرائيل على جنوب لبنان اليوم، بل بانفجار مرفأ بيروت عام 2020، الذي تسببت به منظومة 4 آب. ومع ذلك، ما زال بعض اللبنانيين، ينتخبون المنظومة السياسية، فيسلّمونها "رقاب" أولادهم من بوابة وزارة التربية، وينتظرون من قرارات المنظومة القاتلة، حماية أبنائهم من اسرائيل.
«التعوّد» على الحرب. ببساطة، هذا الهدف من إجراء الإمتحانات الرسمية للثانوية العامة لأربعين ألف طالب، تحت القصف وجدار الصوت.  فالمنظومة تريد لأطفالنا أن يعتادوا على ما اعتاد عليه أهلنا، جيل الحرب: حرب وسياحة تحت سماء واحدة، حياة في أوج سكرات الموت، وهذا هو «التطويع» تحت مسمى «اللبناني يحب الحياة» وهو في الحقيقة ليس إلا مقاومة اللبنانيين للبقاء على قيد الحياة، بالرغم من محاولات المنظومة لقتلهم بشتى الأساليب. 
«مشواران» للرئيس نجيب ميقاتي طبعا المشهد اللبناني هذا الأسبوع: زيارته لمراكز امتحانات الجنوب معلنا عن الامتحانات «الإنجاز»، وإطلاقه من واجهة بيروت البحرية، حملة وزارة السياحة تحت عنوان «مشوار رايحين مشوار»، ليتغنى بعبارة أن الشعب اللبناني «يحب الحياة»، متناسيا أن من ساق طلاب الجنوب إلى أخطر «مشوار» في حياتهم، رغما عن أهلهم، فكان مشوارا محفوفا بالموت في سبيل نيل الشهادة الرسمية، كانت حكومته، وبدم بارد، لتثبت حكومة ميقاتي من جديد أن هذه المنظومة عدوة الشعب وأبنائه.

الإمتحانات «الجريمة»
«جريمة». هكذا يوصّف أهالي طلاب الثانوية العامة (البكالوريا) في لبنان، الإمتحانات الرسمية في الجنوب. و«إنجاز»، هكذا يعتبرها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير التربية عباس الحلبي. 
لكن صدق حدس الأهل وكذب ادّعاء المنظومة. فبينما كانت مدينة صور تقصف أمس، ويخرق جدار الصوت فوق صيدا وإقليم الخروب مرات عدة وصولا اليوم لبيروت، كان وفد التعبئة التربوية في حزب الله، يزور وزير التربية عباس الحلبي، ليهنئه على «أهم إنجاز» بإجراء الإمتحانات الرسمية في ظل الظروف الراهنة خصوصاً في الجنوب، معتبرا إياها بمثابة «عرس وطني يحافظ على قيمة الشهادة الرسمية».
لكن أين «قيمة» الطالب اللبناني في حفلة المنظومة للتهافت على «إنجازات» مزعومة على حساب سلامته وأمنه وجودة الشهادة الرسمية في ظروف التهجير والحرب التي أدخل حزب الله فيها البلاد فيما الدولة غائبة بل ومتسترة على استحواذه على قرار الحرب والسلم وتبعات ذلك القرار؟ 
ومن يتحمل تحول «العرس» المزعوم إلى «مأتم» لو وقعت أي حادثة في المراكز جنوبا؟ ومن يعالج هؤلاء الطلبة من مشاعر الخوف والرعب من وضع الحرب الذي أجروا امتحاناتهم على إيقاعه؟ 
طبعا ليس حزب الله الذي أدخل البلاد في دوامة حرب تحت عنوان «جبهة إسناد غزة»، فأسقطت حرب اسرائيل على الجنوب أرواحاً وأوقعت دمارا. ليأتي قرار الامتحانات جنوبا، كحرب نفسية على الطلاب، الذين ينتظر منهم النجاح، في امتحان رسب فيه الوزير إن بقراره اللاإنساني بإجراء الامتحانات جنوبا أو في تنظيمها وإدارتها مع فضائح بالجملة على مستوى تسريب الامتحانات. 

تطويع الأبناء
التكيف مع الموت

«إيدي مصابة وما فيي إكتب.. أنا انصبت بالحرب... وبالوزارة قال ما فيهن يعملولي شي»، «جبتوني من بيروت لأعمل امتحان، بيتي تدمر راحت أرضي، راح عالم وشهدا من عنا كتير»، «فقدت صهري وصهري التاني وجوز خالتي وفوق هيك عم نقدّم امتحانات»، «هالتقديم كان ظلم لإلنا، نحنا ما كان لازم نعمل امتحانات رسمية»... بهذه النفسية المدمّرة، وتروما الخوف من الحرب والموت، وتحت رعب القصف أو جدار الصوت، أجرى تلامذة بلدة الخيام الجنوبية امتحاناتهم. 
«روقوا علينا»، كان رد الوزير الحلبي على الطلاب، وهم بعمر الثامنة عشر ولم يسبق لهم أن عاشوا الحرب مثله، بل سمعوا عنها من آبائهم. وهي بالنسبة لهم أمر غير عادي وغير طبيعي وغير منصف بحقهم، شأنهم شأن أي إنسان عاقل تملؤه غريزة الحياة.
هذا الجيل غير مدجن مع حياة الحرب، والمطلوب اليوم تدجينه، بأن يجري امتحانات رسمية، أثناء جدار الصوت، والقصف، ويعتاد العيش بحالة هلع وخوف وتروما مستمرة، تماما كالأجيال التي سبقته. وكأن قدر اللبناني مع هذه المنظومة عبر الأجيال، ألاّ يكتمل «حب الحياة» لديه إلا بمقاومة أشكال الموت كافة.
لذلك وصف ميقاتي سير الامتحانات جنوبا بـ«العاديّ».  فالمطلوب تكريس فكرة الـ «لبنانين» الذين لطالما كرستها المنظومة: حرب وسياحة، موت وحياة. وكل هذا لتحقيق أكبر استفادة للمنظومة من قراراتها دونما تمرد شعبي، إن تلك المتعلقة بالحرب، أو تلك المتعلقة بالمردود المالي من السياحة في زمن السلم. 

هل من عاقل ينتخب قتلة أبنائه؟

لكن هل من شعب يحاسب منظومة عرّضت أرواح أولاده للخطر؟ ومن يحاسبها على نتائج الامتحانات بعد إنجازها بالإكراه وفي أجواء ملؤها الرعب؟ هذا ولم نحتسب بعد حجم الدمار النفسي الواقع أساسا، على طلاب مهجّرين، مع ظروف مالية عائلية صعبة نتيجة التهجير، ويعيشون في بيئة غير ملائمة للدراسة في أغلب الأحوال.
والمحصلة، قرابة 2000 طالب ثانوية عامة من سكان الشريط الحدوديّ، سيقوا سوقاً إلى مراكز الامتحانات جنوبا، فظلموا، مرة بسبب الحرب وخسارتهم أرضهم وأحباءهم، ومرة بسبب تعنّت وزارة التربية بإجراء الإمتحانات رغم عدم ضمانها أمنهم في مراكز الامتحانات جنوبا.

طلاب الجنوب لم يكونوا وحدهم ضحايا، فقرابة 40 ألف طالب قدّموا على الثانوية العامة في لبنان، واجهوا امتحانات "فضائحية" سواء بتسريب مواد الكيمياء والتاريخ، أو بعدم تنظيمها أو بالتوصيف الجديد للإمتحان، الذي جرب على الطلاب يوم الامتحان حصرا. وبمعزل عن نتائج الامتحانات، فإن رسوب وزارة التربية والوزير عباس الحلبي ثابت في هذا الاستحقاق. فالظروف اليوم عشرات الأضعاف من جائحة كورونا، التي دفعت الوزارة منذ سنوات لإلغاء الامتحانات الرسمية. ما يجعل تعنتها بإجراء الامتحانات اليوم مريبا بشدة.

حزب الله "الناجح الوحيد"

وهنا ينكشف الهدف الأكبر من الإصرار على إجراء هذه الامتحانات، وهو القول بأنّ الحياة في لبنان لم تتأثر بالحرب التي أقحم حزب الله فيها البلاد.  
تجلى هذا بكلمة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي قرّر عن الطلاب أن استحقاق الامتحانات تحت جدار الصوت والقصف هو فعل «مقاومة»، فرسب ميقاتي في امتحان الدولة والمؤسسات، بتوظيفه السياسي للمخاطرة بأرواح الطلاب، لصالح حزب الله وخياره بإقحام لبنان في الحرب، فيما كان حزب الله الناجح الوحيد في هذا الإستحقاق بشهادة براءة ذمة من تعطيل الحرب لحياة البنانيين، وجودة التعليم في لبنان.
أما الهدف الثاني، فهو تطويع الجيل الجديد في لبنان. إذ قرّر وزير التربية عباس الحلبي وخلفه ميقاتي، «تربية»الشعب اللبناني بأبنائه، بالإنصياع والإنقياد، بأن يعرّضوا أغلى ما يملكون للخطر، أولادهم،  فيرسلونهم في "مشوار"، هو الأخطر وبملئ إرادتهم، المسلوبة مسبقا من منظومة لا تحيك لهم إلا الموت. 
وهذا الإنصياع تحت القهر، إنما يضمن أن تكون «مشاويرهم» الخطرة المقبلة بإيعاز من المنظومة، باعتراض أقلّ، وطاعة أكبر، وهو ما يخلق جيلا مدجنا جديدا، غير قابل للثورة وتغيير «قواعد الإشتباك» بين الشعب الراضخ والمنظومة الحاكمة. 

المنظومة الراسبة

في لبنان، تحدّد أبرز مهام وزارة التربية على موقعها الالكتروني بتربية الطفل، وهي «مسؤولية مشتركة بين الأسرة والمجتمع والدولة». 
وحتى أطفال اللبنانيين في مهدهم، لا يسلمون من سلطة المنظومة عليهم، كونها منتخبة بأصواتهم وتمارس فظائعها بقرارات وزارية،  هي التي لا تؤتمن على أرواح الناس، ولا أموالهم، وانفجار مرفأ بيروت وسرقة أموال المودعين أكبر مثال، ومع ذلك، ينتخبونها، فيولونها مصائر أبنائهم، عوض أن يرتعبوا من تلك المصائر. والسؤال كم من امتحان للمنظومة ينتظرنا، ليعدل ناخبوها عن انتخابها وتعريض أبنائهم لخطر جرائمها و«مشاويرها»؟ 

المشوار الأخير؟

من على مقعد الامتحان، تباهت إحدى الطالبات في الجنوب باستعداد الطلبة لنيل شهادتين: الموت والشهادة الرسمية. وهذه سردية حزب الله التي تذكرنا بالعبارة الشهيرة «مين قال نحنا مننهار... نحنا ما مننهار». والحال أن اللبنانيين قد لا «ينهارون»  فقط من بطش عدو يتربص بهم من الخارج، بل أنّ منظومة الانهيار الحاكمة، وتبعيتهم للزعيم التي ترقى لمستوى العبودية على حساب أرواح أبنائهم، كلها «فعل» انهيار.
«مشوار»... «رايحين مشوار»، منذ 3 عقود نحو التهلكة. وليته يكون المشوار الأخير للمنظومة على سكة الحكم.