الأخبار المُضللة والانتخابات الأميركية ويد بوتين الخفية

الأخبار المُضللة والانتخابات الأميركية ويد بوتين الخفية

  • ١٥ تموز ٢٠٢٤
  • عبدالله ملاعب

الأخبار الكاذبة لَذجة.. لا تُمحى بتصحيح

يمنع القانون الدولي تدخل الدول في شؤون غيرها. إلا أن هذا الأمر لم يعد قابلا للمراقبة اليوم. ففي زمن حرب البيانات أو «information warfar » بات التدخّل في شؤون الدول الأخرى، سهلاً وممكناً عبر الفضاء الإلكتروني، وعقد الصفقات السريّة، تُترجم إعلامياً وتُسوّق أو تُكذّب كما يحلو للدولة. والكذب محبب حيث تتلقى المنشورات المُضللة على منصة «أكس» تفاعلاً أكبر من تلك التي تتضمن معلومات صحيحة، وذلك بنسبة 70%، بحسب دراسة نشرت مؤخراً لـ منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية. وإن دلّت هذه الدراسة على شيء، فهي تؤكّد أنّ الرأي العام يُحبّذ الأخبار المفبركة التي تدخل في حرب البيانات.  

الأخبار الكاذبة لَذجة.. لا تُمحى بتصحيح
في إطار محاولة فهم نتائج الدراسة التي أظهرت أنّ الأخبار الكاذبة تتلقى تفاعلاً أكبر، تُبين دراسة بحثية أخرى لمؤسسة «سايدج» البحثية العالمية أنّ الناس يميلون لتصديق المحتوى الذي يتماشى مع آرائهم واعتقاداتهم بصرف النظر عن مصدره، ويقومون أيضاً بالتفاعل مع هكذا أخبار يرون أنّها تعبر عنهم. 
إلى جانب ميل الناس لتصديق الأخبار الكاذبة التي تعبّر عن اعتقاداتهم، بات اليوم من الصعب عدم الوقوع في أفخاخ المُفبركين للأخبار مع توسّع التقنيات التي من شأنها فبركة الأخبار. وقد استطاع الذكاء الإصطناعي في العقد الأخير، أنّ يصدر أخباراً كاذبة عبر تعديل مقاطع فيديو وهذا ما يعرف بتقنية الـ«deep fake». ومن أشهر تلك الحالات وأولها: فيديو محاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة الفساد عام 2012، وصف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب «بالغبي الكبير» عام 2018، وفيديو تشكو فيه الملكة إليزيبث الثانية من تصرفات عائلتها العام 2020، كلها أخبار كاذبة ظهرت بالصوت والصورة عبر تقنية الـ «deep fake». 
ما يزيد المشهد تعقيداً، هو ما توصلت إليه دراسة بحثية أخرى لمؤسسة «سايدج»، خلصت إلى أنّه وفي كثير من الأحيان، تصحيح الأخبار الكاذبة لا ينفع لأنّ الأخبار الكاذبة لَذجة، أي أنّها تبقى محفورة بأذهان الرأي العام ليفشل التصحيح بإبطال الخبر الكاذب. وهذه ظاهرة شائعة رصدتها مؤسسة «سايدج» وتصفها ب «continued influence effect». 

السؤال الأساس من يُفبرك الأخبار الكاذبة؟
عادة ما تكثر الأخبار الكاذبة والمُضللة في الأوقات التي يشهد فيها المجتمع المحلي، أو الإقليمي، أو الدولي تشنجات داهمة واصطفافات خطيرة، أو سباق ما بين مُعسكرين أو نهجين.
بحسب خبراء الإعلام، بدأ العالم يتنبّه أكثر إلى الأخبار الكاذبة في العقد الأخير، وذلك مع تنامي الإعتماد على مواقع التواصل الإجتماعي كمصدر مهم للمعلومات، وتنامي قدرة التطوّر التكنولوجي على تدعيم الأخبار الكاذبة بصور وفيديوهات تسهم بعملية التضليل. إلّا أّنّ الأخبار الكاذبة لا تقتصر على الإعلام الجديد بل هي أيضاً بصلب الإعلام التقليدي، وهذا أمر واضح اليوم في عدوان إسرائيل على غزة حيث تفقد مؤسسات غربية عريقة مصداقيتها بسبب تناقل مراسليها وإعلامييها أخباراً مفبركة. 
الانتخابات الأميركية: باب الفبركة الأشهر
عام 2016، عشية الإنتخابات الرئاسية الأميركية ازدحم الفضاء الإخباري التقليدي والحديث بالأخبار الكاذبة مع إحتدام المنافسة بين المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون والمرشح  الجمهوري دونالد ترامب. آنذاك، وبعد أشهر قليلة على الإنتخابات، خلصت ورقة بحثية لجامعة ستانفورد إلى أنّ دونالد ترامب لم يكن ليُنتخب رئيساً لولا تأثير الأخبار الكاذبة. وتوقعت الدراسة أن يكون للأخبار الكاذبة تأثيرات أكبر على الإنتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. وبالفعل هذا ما رُصد عام 2020. 
فبركة أخبار وقصص كاذبة على مئات المواقع الإلكترونية عام 2016، رفع من عائدات الإعلانات لأنّه جذب عدداً كبيراً من القراء، وهو ما فسرته أول دراسة أشرنا إليها في المقالة، وبالتالي سمحت الأخبار الكاذبة التي استقدمت إعلانات إلى تمويل حملات إنتخابية، لاسيما حملة ترامب كما اعتبرت دراسة لجامعة فيرجينيا صدرت عام 2016. 
ولتبيان مدى تأثير الأخبار المفبركة التي استخدمت لتضليل الرأي العام ورفع الإيرادات للوصول إلى هدف واحد، وهو التأثير على نتائج الإنتخابات الرئاسية الأميركية، أعلنت نهاية ذلك العام مؤسسة أكسفورد اختيار مصطلح «Post Truth»
كمصطلح العام العالمي، للإشارة إلى مدى قوة الأخبار الكاذبة. ويصف هذا المصطلح  الذي يترجم إلى «ما بعد الحقيقة»، ظاهرة فشل تصحيح الأخبار الكاذبة بتغييّر موقف الرأي العام الذي انحفر بذهنه الخبر الكاذب. 
آنذاك، بحسب دراسة بحثية لمعهد السياسات الدولية اتبّعت روسيا استراتيجية في حرب «البيانات» المعروفة بـ «information warfare»، لتعزيز الخلاف والتشكيك في شرعية المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة،  وشمل ذلك بحسب الإستخبارات الأميركيّة تقديم دعم مالي لجماعات، صنّفتها الإستخبارات الأميركية بالمتطرفة.
وكان من ضمن الاستراتيجية، القيام بهجمات إلكترونية، وقرصنة المعلومات عن الأحزاب السياسية والوكالات الحكومية، وانتقاد القيم الليبرالية الغربية. 
اليد الروسية في انتخابات العام 2016 الرئاسية الأميركية 
في تشرين الأول 2022، صرّح زعيم مجموعة «فاغنر» الروسية، الذي قُتل في آب عام 2023، يفغيني بريغوجين، أنّه تدخّل في الإنتخابات الأميركية. وقال إنَّه، سيواصل القيام بذلك في المستقبل. كان ذلك أول إعتراف من نوعه، من شخصية روسية، تؤكّد تدخّل موسكو في الإنتخابات الأميركية. وفي تعليقات نشرتها «الخدمة الصحفية» لشركته «كونكورد» للطعام، قال بريغوجين، «لقد تدخلنا في الإنتخابات الأميركية، ونحن نتدخل وسنواصل التدخل بعناية ودقة. بريغوجين الذي مات في ظروف غامضة، بعد أن انقلب على وزارة الدفاع الروسية، والرئيس الروسي نفسه، فلاديمير بوتين، كان رجل الإستخبارات الروسية الأول، الذي كسب ثقة بوتين منذ كان طاهيا. يُشار إليه غالبًا باسم «طاهي بوتين» لأنّ شركة تقديم الطعام الخاصة به تدير عقود الكرملين.
بريغوجين إتُهم رسمياً برعاية ما عُرف ب«Russia Based Troll Farms»،  وهي وكالة أبحاث روسية، كان مقرّها في سان بطرسبرغ، عملها منحصر بالتأثير على السياسة الأميركية. 
وفي تموز من العام نفسه، كانت وزارة الخارجية الأمريكية قد عرضت مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار للحصول على معلومات عن بريغوجين فيما يتعلق «بالتورط في التدخّل في الإنتخابات الأمريكية». وتعرّض لعقوبات أمريكية وبريطانية ومن الإتحاد الأوروبي.

الأخبار الكاذبة.. سلاح فتَّاك 
خفت الاهتمام الدولي بالتدخّل الروسي الذي ثبُت في انتخابات الأميركية عام 2016. إلا أنّ تلك المقاربة الروسية عادت إلى الواجهة، مع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث خاضت موسكو وكييف حرب بيانات قادرة على تبديل نتائج المعركة على الأرض كما شرح الصحافي الأميركي المتخصّص بشؤون الأمن القومي والحروب الإلكترونية ديلان غريفيث في حديث معنا. حيث أنّ لحرب البيانات جملة من التأثيرات على المتجمع الذي يخوض الحرب الحقيقية لاسيما على المحاربين في ساحات القتال (لجهة رفع معنوياتهم أو العكس)  وكذلك على المجتمع الدولي والرأي العام العالمي. فعلى سبيل المثال، يرى متخصصون بالحروب الالكترونية أنّ أوكرانيا مع  بداية الغزو الروسي ربحت معركة البيانات إلا أنّها خسرتها بعد حين بسبب استراتيجية الدعاية الروسية التي غزت الشعوب عبر مواقع التواصل الإجتماعي وحركت شعوباً ضد حكامها الداعمين لأوكرانيا كما هو الحال في ألمانيا وتشيكيا وغيرهما من الدول الأوروبية حيث تُنظّم مسيرات تندّد بالدعم العسكري اللامتناهي لأوكرانيا وتتحدّث عن ضرورة إستخدام تلك الأموال في دعم الإقتصاد. 
الدعاية الروسية بحسب الصحافية المتخصّصة في حرب البيانات جيسيكا أرو التي كانت قد نشرت في تموز 2022 كتاباً بعنوان
« Putin Trolls: The Frontline of Russia’s information war against the world» ترتكز على نشر جملة من الأخبار الكاذبة والمفبركة على مواقع التواصل الإجتماعي قائمة على ربط المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة في أوكرانيا بملفات وصراعات أخرى لتحريك الرأي العام العالمي ضد الولايات المتحدة وجميع حلفائها بمن فيهم أوكرانيا، بذلك تكون ساحة حرب البيانات أكبر بكثير من ساحة الحرب الحقيقية في أوكرانيا.
 وقد ربطت جيسيكا أرو، كغيرها من المتخصّصين في الأمن الإلكتروني، إنقلابات الساحل الأفريقي ضد الوجود الفرنسي بالأخبار الكاذبة التي تروجّها روسياعبر مؤثرين أفارقة يتقاضون منها رواتب شهرية لقاء نشر أخبار تحرّك الرأي العام الأفريقي ضدّ فرنسا وتلمع صورة روسيا كدولة مواجهة للإمبريالية الغربية. الكاتبة تعتبر أيضاً أنّ مؤسسات إعلامية روسية تقليدية وبعضها عريق وبانتشار عالمي، دخلت أيضاً على خط حرب البيانات القائمة على نشر أخبار كاذبة تخدم روسيا. 

الدور الروسي في انتخابات 2024 الرئاسية الأميركية 
لا دراسة حتى هذه الساعة حول التدخّل الروسي، في انتخابات لم تجرِ بعد. إلا أنّ الاستخبارات الأميركية كانت قد أكدت تدخل روسيا مرّة جديدة، في هذا الاستحقاق. والأكيد، أنَّ الإهتمام الروسي هذا العام قد يكون من أولويات موسكو التي لاتزال في حربها في المستنقع الأوكراني. من يتابع الإعلام الروسي، وهو في غالبيته رسمي أو موال كـ«روسيا اليوم، وسبوتنيك، ووكالة تاس»، يستغرب التركيز الكبير على كل ما من شأنه انتقاد بايدن وإظهاره بصورة بشعة. على سبيل المثال، لا الحصر، من يدخل على حساب «@sputnik news»، على إنستغرام، قد يتفاجأ أنّ للرئيس الأميركي جو بايدن مقاطع فيديو أكثر من تلك المنشورة لفلاديمير بوتين. ولا العلامة الزرقاء يظنّ المرء أنَّ تلك الصفحة ليست رسمية. 
كل الفيديوهات، تهدف للسخرية من بايدن، بعضها «زائف» ومفبرك، وتدرك حقيقته الصحيفة بطبيعة الحال، إلا أنَّها لا تتراجع عن نشره أو تقوم بالتوضيح. ومن تلك الأمثلة الفيديو الذي جمع الرئيس بايدن وينس ستولتنبيرغ، أمين عام الناتو. حيث انتشر فيديو قال فيه بايدن لستولتنبيرغ «لقد تحدثت إلى زوجتك»، فيما أنَّ الكلام تبيّن وكأن ما قاله: «قد مارست الجنس مع زوجتك». ورغم معرفة حقيقة ما قيل، لم تتراجع سبوتنيك عن المعلومة المُضلل كي لا نقول كاذبة. 
في المصحلة، الأكيد أنّ مراقبة التدخّل الروسي في الإنتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، يحتاج المزيد من التمعّن في الإطار. ولكن الأكيد أنّ بوتين، يسعى لوصول ترامب إلى البيت الأبيض. المرشح الذي سبق ووصف بوتين بالصديق المُقرّب.