تبييض الأموال في لبنان.. من إيران إلى أميركا

تبييض الأموال في لبنان.. من إيران إلى أميركا

  • ٢٧ تموز ٢٠٢٤
  • غادة حدّاد

يقف لبنان أمام خطر جدّي في وضعه على اللائحة الرمادية، لعدم قدرته على محاربة الاقتصاد النقدي. وهذا النوع من الاقتصاد ينتشر بفعل غياب القطاع المصرفيّ، وغياب الثقة في القطاع، بعد الأزمة الاقتصادية، وإنهيار النظام المالي برمته.

تحاول جميع الأطراف التنصل من مسؤوليتها في الازمة، فيما تستفيد أطراف أخرى من غياب القطاع المصرفي. تدخل إلى لبنان ملايين الدولارات، ويخرج غيرها، دون القدرة على مراقبتها. وهذا ما يستفيد منه تجار المخدرات والسلاح والقابضين على الدعارة، حيث تجري عمليات تبييض الأموال. كما استفادت المجموعات المسلحة، مثل حزب الله وحركة حماس والجهاد الإسلامي، من انتشار اقتصاد الكاش، ومن يُجيش يومياً ضد التنظيمات المسلحة، يقف سداً منيعاً أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بل ويحمون المصارف وأصحابها، مانعين عنهم المحاسبة. 

الأزمة ولَّدت اقتصاد الكاش، ويستخدمه الحزب وحلفاؤه لتسهيل تدابيرهم المالية، وتأخذه الولايات المتحدة وحلفاؤها كسلاح بوجه الحزب، ليدفع المجتمع اللبناني ثمن هذا الصراع من جيبه ولقمة عيشه.

يسهّل الاقتصاد النقدي عمليات تبييض الأموال، ذلك لغياب الرقابة على التحويلات المالية، إذ سابقاً كانت تنتقل الأموال بطرق معقدة، عبر نظام "الحوالة"، الذي يستخدمه أي طرف لديه مبالغ ضخمة يريد نقلها من بلدٍ إلى آخر، وهو ليس نظام محدد بل عبارة عن شبكات كبيرة من الصرافين متواجدين في كل الأماكن، ويقومون بالتقاص فيما بينهم، حيث يسلم أحدهم أموالاً في بلد، ويستلمهم أحدهم من بلدٍ آخر، من هنا تنتشر أخبار عن القاء القبض على شبكة لحزب الله مثلاً في الباراغواي، وفي هذه الحالات هم افراد لديهم وظائف أخرى، ويتعاونون مع الحزب أو الحرس الثوري، في أمور تتعلق بتبييض الأموال.

من الصعب جداً الكشف عن الشبكات لانّه عالم سريّ للغاية، أما اليوم ومع انتشار اقتصاد الكاش بات الامر أسهل، فسابقاً كان إيداع مبلغ في المصرف وسحبه بعد يومين، يعد إشارة سلبية وخطيرة، وهذا يدل على أنّ المودع يقوم بنشاط مشبوه، وهنا يخضع للكثير من الأسئلة حول نشاطه وكيفية حصوله على هذه الأموال، وأي مبلغ فوق الـ 10 الالف دولار يصل إلى المصرف، يشترط تقديم وثائق واثباتات حول مصدره، وفي حال وصل مبلغ إلى حساب مصرفي وسحب بسرعة يسأل أيضاً عن السبب، إذ كان في الغالب يلجأ إلى الشيك المصرفي، خاصة عندما تكون المبالغ الكبيرة.

بعد عام 2019، باتت التحركات المصرفية الخطيرة، هي الطبيعية، وأضحى سحب الحوالات كاش هو الأمر الطبيعي، فلم يعُد أحد يثق بالمصارف، ومن يريد تحويل مبلغ عليه تأمين مبلغ من الدولارات جديد من السوق، إذ لا يمكنه ارسال من البالغ القديمة المحتجزة في المصارف، وهذا غيّر في معايير تبييض الأموال في المصارف في لبنان. مع اتجاه الاقتصاد نحو الكاش وتحول المصارف إلى مجرد وسيط، ازدادت مخاطر تبييض الأموال بشكلٍ كبير، حيث بات تحويل الأموال النقدية إلى الخارج ميسّر أكثر، ومن لديه أي عمل لا يريد التصريح عنه بشكلٍ غير قانوني للنظام المصرفي، بات يمكنه الهروب من الرقابة، إذ أنّ الأموال كلها في السوق، وهذا غير محصور بالتنظيمات المسلحة، فهو ينطبق على تجار المخدرات أو من لديه دخل في أفريقيا أو من ليسوا مجرمين، لكن لا يمكن أن يصرحوا عن أعمالهم وهذا كله يوضع في خانة تبييض الأموال، وفقاً للمعايير الأميركية، وهي المعايير المعمول بها. 

قبل الـ 2019 كانت كل التحويلات مراقبة ويعرف مصدرها واتجاهها، وكانت عمليات التحويل الكبيرة تعتبر الاستثناء، والعمليات اليوم باتت كلها نقدية ولا حاجة لتبرير تداول مبالغ ضخمة، في وقت يتحكم الصرافون بالقطع والدولار، وخاصة عمليات البيع والشراء بالقطع أي عمليات التصريف، وعليه إنتقلت عمليات بيع وشراء وتصريف الدولار بمبالغ كبيرة من المصارف أو المصرف لبنان إلى السوق السوداء، وهذا ما استفاد منه الحزب، خاصة وأن جزءًا كبيراً من هذه العمليات تجري بين لبنان وسوريا، مثل السوق المشتركة في شتورة.

ما يسهل هذه العمليات أيضاً النظام المالي الخاص بالحزب، الذي يقوم بعملياته عبر "قرض الحسن"، والذي هو جزء من النظام النقدي، وقد ارتفعت ارقامه بشكلٍ كبير بعد الازمة، لأنّه خيار آمن، حيث يسلف مقابل الذهب، وهذا ما يضمن الحفاظ على الوديعة. 

من هنا يظهر اهتمام الولايات المتحدة بمحاربة الاقتصاد النقدي في لبنان، وقد نقلت صحيفة "الشرق الأوسط" عن نائب مساعد وزير الخزانة لشؤون آسيا والشرق الأوسط في مكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية جيسي بايكر خال زيارته إلى لبنان، بعد لقائه المسؤولين اللبنانيين، مخاوفه "بشأن حركة أموال (حماس) عبر لبنان، وأموال (حزب الله) المقبلة من إيران إلى لبنان، ثمّ إلى مناطق إقليمية أخرى"، مشيراً إلى أنّ "امتثال لبنان للمعايير العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ركيزة أساسية لجذب الاستثمارات من الولايات المتحدة، وبقية العالم وإخراج البلاد من أزمتها التي طال أمدها".

في الخلفية، صراع بين داعمي الطرفين الخارجيين، في سيناريو مشابه لما حدث في العراق. فعلى الرغم من أنّ العراق يعتبر دولة غنية، ولديها احتياطات فوق المئة مليار دولار، ولم تمر في أزمة نقدية، لكن لديه مشكلة تعدد أسعار صرف ومشاكل نقدية، ذلك أنّ توسع الحشد الشعبي، وتوسع تأثير ايران في العراق، ما اثار مخاوف الولايات المتحدة الأميركية من ان الأموال التي تدخل الى العراق ستصل إلى أطراف قريبة من ايران، وتستخدمها للتهرب من العقوبات المفروضة على ايران، فتشدد الاميركيون في الأموال الكاش التي تذهب الى العراق مصرفياً ونقدياً، ووضعوا قيوداً على السحوبات، وبات يحدد لكل مواطن حجم سحوباته، مما سبب تعدد في أسعار الصرف، وأصبح هناك السعر الرسمي وسعر السوق السوداء، هذا في وقت لا يوجد أزمة في النظام المصرفي العراقية.

وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد نقلت عن مسؤول أميركي في تموز 2023، منع الولايات المتحدة الأميركية 14 مصرفاً عراقياً من إجراء معاملات بالدولار، لمنع تدويل دولاران إلى إيران ودول أخرى خاضعة للعقوبات في الشرق الأوسط. وأتت الخطوة بعد "الكشف عن معلومات تفيد بأنّ البنوك المستهدفة متورطة في عمليات غسيل أموال ومعاملات احتيالية"، معتبرةً أنّ العمليات المصرفية متعلقة بأفراد خاضعين لعقوبات أميركية، ما يعزز فرضية استفادة ايران منها.

أدت هذه السياسات إلى خلق أزمة نقدية في العراق، وهدد مصير عدد من البنوك العراقية، التي لديها القليل من المودعين، وتقدم قروضاً تجارية قليلة، وتعتمد على الدولارات لتجني ارباحاً. ومنعت وزارة الخزانة الأميركية 4 بنوك عراقية في تشرين الثاني من الحصول على الدولارات، وفرضت قيوداً على التحويلات المالية، بالتعاون مع المصرف المركزي.

وعلى الرغم من التخوف من تكرار السيناريو العراقي، ارتأى مصرف لبنان التهرب من مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، واقتراح منصة "بلومبرغ" لمراقبة العمليات المالية، ما يطرح أسئلة حول النية الجدية بإصلاح النظام المالي اللبناني. فالمنصة المعهودة يعتمد عليها حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري لضبط حركة الأموال في السوق، ويروّج لها كأداة لمحاربة اقتصاد السوق، منعاً لادراج لبنان على اللائحة الرمادية. فالمنصة تابعة لشركة "بلومبرغ"، وسيتم عليها التبادل بالليرة اللبنانية والدولار، ولن يتدخل مصرف لبنان بائعاً للدولار إلّا في الحالات القصوى. 

كل محاولات الهروب هذه، تغرق البلاد أكثر في أزمة اقتصادية مستمرة، وحرب في الجنوب، وتهديد مستمر بتوثق خدمات البنى التحتية، وغياب التعليم والسكن، بانتظار من سيربح المعركة، ايران أم اميركا.