نسوية واحدة.. أم نُسخ متعددة؟ رحلة عبر تاريخ وتنوّع تيارات الحركة النسوية بين التطرف والإعتدال

نسوية واحدة.. أم نُسخ متعددة؟ رحلة عبر تاريخ وتنوّع تيارات الحركة النسوية بين التطرف والإعتدال

  • ٠٨ آب ٢٠٢٤
  • إلياس معلوف

الحركة النسوية رحلة طويلة من النضال من أجل حقوق المرأة، لكنها ليست نهجاً واحدًا! فمنذ بدايتها، ظهرت تيارات نسوية متعددة، تختلف في رؤيتها لدور المرأة. بين السعي نحو الحقوق المتساوية، والإنزلاق نحو التطرّف ورفض كل ما يمثل السلطة الذكورية.. فهل يمكن الحديث عن «نسوية واحدة» أم أنّنا أمام «نسويات متعددة؟» سنستعرض أبرز التيارات النسوية وأوجه التنوع والاختلاف بينها

تعني كلمة الأنثوية بالمعنى الدقيق للكلمة «ما هو منسوب للأنوثة». ينسب أصل كلمة الأنثوية الى «تشارلز فورييه»، وهو فرنسي استخدم هذا التعبير في القرن التاسع عشر حوالي العام ١٨٣٠. إنّما استخدامه إياه كمرادف لتحرير النساء لم ينتشر على نطاق واسع حتى العام ١٨٩٠. وهذه الكلمة كانت ناجحة للغاية بعد أول مؤتمر نسائي عام في باريس عام .١٨٩٢

أما وفقا للقاموس، فانّ الحركة الأنثوية «هي عقيدة اجتماعية تنسجم مع حالة النساء، اللواتي يعترفن بالقدرة والحقوق المخصصة للرجال حتى الآن».

وقد سعى البعض الى وضع تعريف يمكن تطبيقه على مختلف البرامج ووجهات نظر الجماعات الأنثوية، كتلك التي اقترحتها «كارن اوفن»: «ايديولوجية وحركة التغيير الاجتماعي والسياسي، بناء على التحليل النقدي لامتيازات الرجل وتبعية المرأه في سائر المجتمعات». 

وهنا تعتبر «اوفن» أنّ الأنثوية أمر يناقض تبعية المرأه للرجل في الأسرة والمجتمع. لذا سيكون هدفها تدمير التسلسل الهرمي للذكور والثنائية الجنسية. 
سنبحث في القسم من المقالة مسار الحركة النسائية التاريخية بايجاز. لننتقل في القسم الثاني إلى الانثوية الراديكالية. أما في الجزء الثالث، فسنتطرق إلى الأنثوية الناضجة والمعتدلة.
 

١-أ تطوّر الأنثوية في القرن التاسع عشر 

لقد جمع القرنان الأخيران معًا وبصورة خاصة قوية وواضحة، قوى وتيارات فكرية وتغيرات إجتماعية سياسية أو إقتصادية. وقد ساهم تجمّع تلك القوى في ولادة موجة الأنثوية الكبيرة. ولكن في فتره تاريخية من النقاشات الإيديولوجية العظيمة، حيث سعت كل مجموعة أنثوية، الى تلوين علمها وفقًا للتيار الفكري الذي هو في أصول أفكارها. وهكذا، اصطدمت الحركة الانثوية في تعريفها وغاياتها بالقيود الإيديولوجية المهيمنة. 

قد يساعدنا هذا التفكير في فهم سبب ولادة الحركة الأنثوية ذات الملامح الايديولوجية المختلفة. ففي القرن التاسع عشر، إنّ سيطرة الإطار الثقافي، يسلط الضوء على موقف مميز للمرأة، بعكس الحقبات التاريخية، وبالتالي يشجع على الثورة الأنثوية.

يمكن أن نجد تفسيرًا لهذه الظاهرة من خلال تحليل المتغيرات التي سببتها الثورة الصناعية. فخلال الحقبة ما قبل الصناعية، أي قبيل العام ١٧٥٠، كان الناس يعيشون في الواقع وفقا لمفهوم واسع للأسرة. وكانت الأسرة النموذجية تتكون من عدة أجيال: الزوجان مع العديد من الأطفال والأجداد وبعض الأقارب الآخرين. 

فكان الرجال يعملون في الحقل وكانت الأم مسؤولة عن تنظيم الحياة الأسرية وإدارتها، كما قاموا بتعليم الاطفال وشاركوا أيضا في أنشطة مختلفة تتراوح بين المساعدة في الحقل حتى التجارة. بحسب هذه النظرية، لا يمكن أن تشعر المرأة التي تعيش بهذه الطريقة بالتمييز بأي شكل من الاشكال. وقد تميز هذا النوع من التنظيم بالارتباط المتبادل الإقتصادي بين الرجال والنساء والأطفال في عمل المزارع الأسرية والمؤسسات الصغيرة.

وخلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، وعند بزوغ فجر الديمقراطية، لم يكن بإمكان النساء أن يقترعن أو يشغلن مناصب عامة أو أن يمتلكن ملكية خاصة أو أن يتعاطين التجارة أو يفتحن حسابًا مصرفيًا. إذ فرض القانون المدني قيوداً كبيرة على النساء، فاعتبرهن قاصرات أمام القانون.

١- ب تطور الحركة الأنثوية في القرن العشرين

في بداية القرن العشرين، مالت بعض المجموعات الأنثوية في انكلترا والمانيا إلى التطرف مواقفها، متلهفة للحصول على حق الإقتراع. في انكلترا، كان هناك صراع عنيف بين عامي ١٩٠٦ و ١٩١٤، حيث لجأت بعض النساء الى العنف والتظاهر الهادف إلى جذب الإنتباه. ومجرد حصولهن على حقّ الإقتراع، واصلت الحركات الأنثوية الإنكليزية كفاحهن من أجل قضايا إجتماعية أخرى. ففي فرنسا، تطورت الانثوية الكاثوليكية أكثر من ذلك بكثير. حيث تأسست حلقة السيدات الكاثوليكية في العام ١٩٠١، ومنذ العام ١٩٠٣، بدأت الدراسات الإجتماعية حول المرأة، اذ أصبح من الضروري إنشاء نخبة منظمة في هذا المجال. وانتشرت قراءة كتاب «إتيان لامي» بعنوان «إمرأة الغد» على نطاق واسع من قبل الحركات الأنثوية.

ومن المفارقات، أنّه مع إندلاع الحرب العالمية الاولى، كانت المرأة قد  لاقت تشجيعاً في بعض أهدافها الأنثوية. واحتلت الكثيرات منهن مراكز أعمال تركها رجال بعدما ذهبوا الى الحرب. وبعد الحرب، اكتشف الرجال قدراتهن ومواهبهن في تأدية تلك المهام، وراحوا يميلون الى مساعدتهن على اكتساب حقّ الإقتراع فضلاً عن الحقوق السياسية والمهنية. وقد تطلبت فترة ما بعد الحرب أيضاً، جهدًا لإعادة البناء الوطني ودعم الأسرة، مما سهل اهتمام المرأة بأطفالها.

2-  الأنثوية الراديكالية

2-1 الأسس الفلسفية للحركة الأنثوية الراديكالية


- الماركسية:
استلهم «ماركس» من «هيغل» في البداية. قام بتكييف عمليات التفكير الجدلي مع تفكيره حول التطبيق العملي التاريخي. وقد دفع تحليل ماركس الإجتماعي للوسط الكادح الفرنسي والإنكليزي خلال القرن التاسع عشر الى الإستنتاج بأنّ الرأسمالية، من خلال عزل الانسان، جعلت منه كائنًا محرومًا من نفسه.

- المالتوسية:
كان «توماس روبرت مالتوس» خبيراً إقتصادياً وعالماً بالنظريات السكانية في القرن التاسع عشر. فنظريته الديموغرافية، التي تنصّ على زيادة السكان في التقدّم الهندسي في حين أنّ انتاج الغذاء يزيد فقط في التقدّم الحسابي اليوم، قد أصبحت متجاوزة الى حد كبير. ولكن في عصره، ألهمت هذه النظرية المقترحات الأولى لتحديد النسل. وسوف يؤدي النضال من أجل الحياة الى اختيارها كأصلح نظرية، وهي النظرية التي سوف يطورها «داروين» لاحقاً في نظرياته عن التطور.

-الليبرالية:
إنّه نظام فلسفي وسياسي وأخلاقي واقتصادي وديني يضع الحرية كقيمة عليا ويخلط بينها وبين الاستقلال المطلق للإنسان واستقلاله عن أية قيمة فائقة للطبيعة أو متسامية. وعلى المستوى الاقتصادي، ستكون نظريه «آدم سميث» النظرية الليبرالية الاكثر أهمية، وهي تعرض الحرية الفردية المطلقة في الإقتصاد.

2-2 - المفاهيم الأساسية لفهم الانثوية الراديكالية
يجب أن نقدم تفسيرا لسلسلة من المفاهيم التي تفسرها الانثوية الراديكالية بطريقتها الخاصة بطريقة نسبية تنكر فيها امكانية قبول الحقائق المطلقة.

-الحرية:
لقد طالبت المنظمات الأنثوية الأولى بالحقوق المعبر عنها باسم حريتهن. لقد أردن أن يكن أحرارًا في الإقتراع، والإختيار وعلى مثال الرجال متابعة الدروس، وعملهن، وإدارة حياتهن. 

أما بالنسبة الى الحركات الانثوية الراديكالية، فلم يكن الأمر متعلقاً بالحرية كقدرة على تقرير المصير نحو الصالح  العام والفردي بل بالحرية المطلقة: متحررات من الشريعة والقواعد الأخلاقية والمجتمع والثقافة والدين والدولة. فالمطلوب هو ممارسة الإستخدام الكامل لإراداتهن الشخصية دون مراعاة الغاية المرجوة، فالمقصود هو التحرر من اضطهاد الرجل عن طريق الوصول الى سوق العمل والتحرّر الجنسي بالتخلي عن المؤسسة العائلية.

-الحكم الذاتي:
من خلال تحليل التيارات الانثوية المختلفة، يظهر الحكم الذاتي لتلك التيارات، في شكل مطالبة بالملكية الحصرية لجسد الشخص، وفي شكل الزامية «حق الاجهاض» «والحق بالحصول على طفل» بالطريقة التي تختارها المرأة خارج القواعد الموضوعة من المجتمع.

3- الأنثوية الناضجة:

هذا المفهوم ، هو أن يعرف المرء بأنّه محبوب، ومحترم. هنا يكمن مصدر احترام الذات الذي يجلب في نهاية المطاف الأمان الشخصي، والانتصار على الخوف، ومعنى الحياة، والدافع الى الحب وجعل حياة المرء مشروعاً عظيماً.

إن نظرية «الجندر» نفسها، من خلال قراءة انثروبولوجية بسيطة، وبعيدا عن الشريعة الطبيعية والوحي الالهي، تزيل هوية الشخص من الجنسين وتكامل الانوثة والذكورية. 
وهكذا يتم اقتراح أشكال جديدة من العلاقات الإنسانية والجنسية و «هويات» جديدة تدمر وجود الشخص البشري بذاته. 

أما بالنسبة الى المرأة، فإنّ الدعوة الى المعاملة بالمثل مع الرجل فتلك لا تكمن في شيء خارج عن نفسها، كما لو كان قد فرض عليها. بل بخلاف ذلك، فإنّه  يتلاقى مع طبيعتها رغبة  في هذا العطاء المتبادل للآخر الذي يكملها، في ذكوريته، ويجعل تطورها الكامل كمرأة وزوجه وأم ممكناً. 

يكتشف الرجل أيضا، في لقائه مع المرأة،  هذا «الآخر» الذي يكمله ويسمح له بالتطور الكامل كرجل، في ذكوريته. وهكذا، «باتحادهما»، يدعى الرجل والمرأة منذ الاصل ليس فقط أن يوجد «الواحد قرب الآخر» ولكنهما مدعوان أيضا أن يوجد الواحد من أجل الاخر. 
الحرية هنا هي ضبط النفس، وحرية الفكر والإرادة في وجه الشغف والجسد من أجل التعبير عن هبه الذات الى الآخر.

ولقد درس «بردوك »في العام ١٩٨٦ : ما هو المذكر؟ 
المذكر هو مرادف لـ: الموضوعي، التحليلي، النشيط، المفكر العقلاني، المستقل، الاعتماد على الذات، السيطرة العاطفية والثقة بالنفس.
 في حين أننا نجد في تعبير المؤنث ما يلي : شخصي، بديهي، سلبي، لطيف، حساس، قابل للإعجاب، سهل الانقياد، متقبل، انفعالي، عاطفي ومحافظ.

إنّ إحدى خصائص المرأة هي إشراك جميع مجالات شخصها، وكل قدراتها، وكل ما تقوم به فيما تعمله. سوف تميل الى التوحيد والتجميع والتركيز، بينما يقسم الرجل ويفصل ويعزل. 

يمكن للمرأة أن تتساهل مع بعض النقص على صعيد الأشياء والنتائج، إذا كان ذلك يجلب جواً من الوحدة والسلام والوئام بين الاشخاص. وقد يميل الرجل الى عدم الأخذ بعين الإعتبار الشخص الذي لا يلتزم «بالتوجه نحو الهدف» لكي تسير الأمور بشكل جيد. هذا التصور للشخص يجعلها أكثر إنتباهاً وتحسباً في العلاقات الإجتماعية. 
أما في المجال المهني، فستُظهر المرأة اهتماما اكبر بالأشخاص أكثر منه إهتماما بالمواضيع.

وفي الخلاصة، إنّ الرجل والمرأة هما قبل كل شيء حاملا الحضارة وستكون مهمتهما كأهل ومعلمين أولوية دائمة. وسيضمن المجتمع بأكمله تقدماً بشرياً من أجل مستقبله، عندما يدعم هذا العمل ويقرنه بتنظيم للحياة المهنية. يمكن أن تصبح المرأة رائدة التغيير لأنّه لا أحد يستطيع أن يساهم مثلها في استيعاب القيم التي ستجعل من الممكن خلق مجتمع أكثر عدلا وانسانية.