مطار القليعات: مشروع اقتصادي أم خطوة لتعميق الانقسامات الطائفية في لبنان؟

مطار القليعات: مشروع اقتصادي أم خطوة لتعميق الانقسامات الطائفية في لبنان؟

  • ٢٥ آب ٢٠٢٤
  • ريمي يونس

يطفو على السطح مشروع إعادة تشغيل مطار القليعات كواحد من الملفات الأكثر إثارة للجدل في الساحة اللبنانية في خضم الأزمات الاقتصادية و السياسية التي لا تنتهي في لبنان.

فوسط دولة تعاني من انهيار اقتصادي شامل، حيث تجاوزت الديون 100 مليار دولار، وأصبح توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه رفاهية، يبدو الحديث عن إعادة تأهيل مطار مهجور في شمال البلاد وكأنه خيال بعيد المنال. ومع ذلك، تصر بعض الأطراف على أنّ هذا المشروع ليس مجرد حاجة اقتصادية، بل يمثل نقطة تحول في الصراع على النفوذ الطائفي والسياسي في لبنان. فهل يمكن أن يكون فتح مطار القليعات خطوة ضرورية لإنقاذ البلاد من عزلتها الجوية، أم أنه أداة جديدة لتقسيم لبنان وتعميق الخلافات بين مكوناته؟

تكاليف هائلة وسط اقتصاد منهار: من أين سيأتي التمويل؟

المشروع الطموح لإعادة تشغيل مطار القليعات ليس مجرد مسألة ترميم بضع مبانٍ قديمة أو إعادة تأهيل المدرجات. إنّه يتطلب استثمارات ضخمة تقدر بين 150 و200 مليون دولار، تشمل إعادة بناء البنية التحتية المتهالكة، وتحديث أنظمة الملاحة الجوية، وشراء معدات أمنية وتقنية حديثة تلبي المعايير الدولية. لكن في ظل الانهيار المالي الذي يشهده لبنان، يصبح السؤال الأهم: من أين ستأتي هذه الأموال؟

الحكومة اللبنانية، التي بالكاد تستطيع تأمين الرواتب لموظفيها، تلمّح إلى إمكانية تمويل المشروع عبر نظام الـ BOT (Build, Operate, Transfer)، وهو نموذج يعتمد على جذب شركات خاصة لتمويل وتشغيل المشروع لفترة زمنية محددة قبل أن تعيده للدولة. لكن هذا النظام ليس خاليًا من المخاطر، ففي بلد مثل لبنان، حيث تتشابك المصالح السياسية والاقتصادية، يفتح هذا الباب أمام شبهات الفساد واستغلال النفوذ. فهل ستكون هناك شفافية في عقود التمويل والتشغيل؟ أم أنّ العائدات ستذهب إلى جيوب النخب السياسية كما حدث في مشاريع سابقة؟

في ظل غياب الثقة الدولية بلبنان، تبدو فكرة الحصول على قروض أو مساعدات من المؤسسات المالية العالمية صعبة التحقيق. فقد توقفت معظم هذه المؤسسات عن تمويل المشاريع اللبنانية نظراً لعدم  الإلتزام الواضح بالإصلاحات الجذرية. لكن هل يمكن أن تتدخل دول إقليمية لتقديم الدعم المالي مقابل تحقيق مصالحها الخاصة في لبنان؟ وهل هذا الدعم سيكون خاليًا من الشروط السياسية التي قد تؤثر على سيادة القرار اللبناني؟

الأهمية الإقتصادية: هل يمكن للمطار إنقاذ الإقتصاد؟

من الناحية الإقتصادية، يمكن لمطار القليعات أن يلعب دورًا مهمًا في تنشيط الاقتصاد اللبناني، خاصة في شمال البلاد. تشير الأرقام إلى أنّ نسبة البطالة في الشمال تصل إلى 35%، وهو ما يجعله أحد أكثر المناطق تضررًا من الأزمة الاقتصادية. إعادة تشغيل المطار يمكن أن تساهم في توفير آلاف الوظائف، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كما يمكن أن يكون وسيلة لتعزيز التجارة مع دول الجوار، خاصة في ظل قربه من الحدود السورية.

لكن هذه الفوائد الاقتصادية المحتملة لا تخلو من التحديات. على الرغم من التفاؤل بإمكانية جذب السياح والشحنات التجارية عبر المطار، إلا أنّ الوضع الأمني المتوتر في لبنان وسوريا قد يكون عائقًا أمام تحقيق هذه الطموحات. بالإضافة إلى ذلك، يبقى السؤال حول ما إذا كانت الحكومة قادرة على إدارة هذا المشروع بكفاءة في ظل الفساد المستشري في البلاد.

الأرقام والمعطيات: ما هو الواقع؟

في عام 2023، سجل مطار رفيق الحريري الدولي ارتفاعًا في عدد المسافرين ليصل إلى 8.1 مليون مسافر، وهو رقم يعتبر كبيرًا بالنظر إلى التحديات التي تواجه البلاد. ومع ذلك، تشير التقارير إلى أنّ المطار يعاني من نقص حاد في الخدمات والبنية التحتية، ما يعزز الحاجة إلى تطوير مطار آخر لاستيعاب الطلب المتزايد.

بالمقابل، يمكن لمطار القليعات أن يستوعب حوالي 2 مليون مسافر سنويًا بعد إعادة تشغيله، وهو رقم قد يساعد في تخفيف الضغط عن مطار بيروت. لكن هل يمكن أن يكون هذا كافيًا لجذب الاستثمارات وتشغيل المطار بكفاءة؟ الأرقام تقول إن النجاح يعتمد بشكل كبير على تحسين الوضع الأمني والسياسي في البلاد و الذي بالطبع يُعتبر مستحيلاً حالياً.


لا يمكن إغفال البعد الطائفي في هذا الجدل، فمطار القليعات يقع في منطقة ذات غالبية سنية شمال لبنان، بينما مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، الذي يُقال أنّه يسيطر عليه حزب الله ، يعاني من مشاكل أمنية وخدماتية متزايدة. إعادة تشغيل مطار القليعات قد يُنظر إليها كخطوة للحد من نفوذ حزب الله على المرافق الحيوية في البلاد، خاصة في ظل تصاعد التوترات السياسية والطائفية. فهل هذه الخطوة هي محاولة لإعادة توزيع النفوذ على أساس طائفي؟ أم أنّ هناك فعلاً حاجة اقتصادية ملحة لمطار جديد يكسر احتكار مطار بيروت ويخفف الضغط عنه؟

المؤيدون للمشروع يرون فيه فرصة لتعزيز الاقتصاد في شمال لبنان، منطقة تعاني من تهميش اقتصادي كبير. وأنّ تشغيل المطار سيسهم في خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الاستثمارات في المنطقة، وتوفير بديل استراتيجي في حال تعطل مطار بيروت. لكن المعارضين يرون أنّ المشروع يهدف إلى تقليص نفوذ حزب الله في البنية التحتية الحيوية للبلاد، ويخشون من أن يكون هذا الملف بداية لانقسامات جديدة تعمق الشرخ الطائفي.

إعادة تشغيل مطار القليعات ليست مجرد مشروع اقتصادي، بل هي امتحان حقيقي لقدرة لبنان على تجاوز خلافاته السياسية والطائفية وتوحيد صفوفه لتحقيق مصلحة وطنية عليا. الأموال المطلوبة هائلة، والتعقيدات المحيطة بالمشروع تجعل من نجاحه مهمة شاقة. لكن إذا تم تنفيذ المشروع بشفافية وعدالة، يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير على الاقتصاد اللبناني، خاصة في المناطق الشمالية المهملة.

في النهاية، يبقى السؤال المطروح: هل سيكون مطار القليعات نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل للبنان، أم أنّه سيصبح مجرد حلقة جديدة في مسلسل الانقسامات السياسية والطائفية التي تعيق تقدم البلاد؟ الوقت وحده سيكشف مصير هذا المشروع، لكن المؤكد أنّ الجدل حوله لن يهدأ قريبًا، وسيرافق اللبنانيين في رحلتهم نحو محاولة استعادة بلدهم من براثن الفساد والانقسامات.