«الأكورديون» على أرصفة الأشرفية

«الأكورديون» على أرصفة الأشرفية

  • ٠٨ أيلول ٢٠٢٤
  • كاسندرا حمادة

رجل مسن، يعزف على الرصيف، مبتسماً في أحد شوارع الأشرفية، يلخّص الفن في «بروفيل» بسيط. فيكتور، كالكثيرين، الذين تغاضت عنهم الدولة التي تحرم المواطنين من ضمان الشيخوخة، وهو الذي يصرف مدخوله على التأمين الصحي.

لحظة عابرة تحوّلت فجأة إلى مصدر إلهام، عندما التقيت بعازف الأكورديون، في ساحة ساسين. وسط  زحمة الحياة اليومية وصخب الشوارع، انبعثت ألحان موسيقية من زاوية، يحتلّها رجل مسنّ، اسمه فيكتور. يمسك الأكورديون في يديه، والقبّعة أمامه، يجمع فيها، ما يقدّمه الناس من نقود. هذا المشهد يعيدنا إلى الزمن الجميل، حيث كان الفن ، لا يخلو من معانيه الثقافية، كوسيلة للمقاومة والتعبير. 

يعزف فيكتور على الأكورديون، وهي آلة موسيقية «للشعب»، وأداة للإندماج والانتماء، وإجتماع الناس معًا. ورث هذه المهنة عن أبيه، حيث كان يصطحبه إلى المطاعم والحفلات الكبرى. يرى اليوم فيكتور، أنّ العزف على الطرقات أكثر قرباً من الناس. ويروي رحلته مع الموسيقى، خلال الحرب. 
إذ، في الحرب الأهلية، لم يفقد فيكتور الأمان في الشارع، متنقلا مع أبيه بين برمانا وجبيل، ولم يتخلّى عن تلك المهنة، التي تمثّل اليوم مصدر عيشه. 
فما زالت أنغام الموسيقى وسيلة يمتّع بها الناس في الشوارع، إلا أنّ يطير نصف رزقه، للتأمين في ذلّ تقاعس الدولة عن بت قانون لضمان الشيخوخة. 
فيكتور، لم تستقبله شوارع سوليدار الكبيرة، فيأتي  إلى ساحة ساسين، وهي المنطقة التي ولد وترعرع فيها، ليقضي يومه في العزف على الموسيقى. إلى ذلك، عازف الطريق ليس مجرد فنان في الشارع، بل هو رمز للأمل والإصرار، وفنّه يبقى شاهدًا على قدرة الإنسان على الإبداع ونشر الفرح، حتى في أصعب الظروف.

ما هو «فنّ الطرقات»؟ 

ومن جهة أخرى، يتخطّى العزف في الشارع حدود المهنة باكتساب القوت اليومي، إذ إنّه مشهدية صغيرة، ضمن عالم «فن الطرقات».

يُعرض الفن عادةً في المسارح وصالات الحفلات الموسيقية ودور السينما والمتاحف، لكن في الأماكن العامة يُطلق عليه «فن الطرقات». يمتد هذا الفن إلى الساحات العامة، والأرصفة، والأماكن السياحية، حيث تتبدل الخلفيات المعقدة للمسارح بخلفيات يومية حية. هنا، تتداخل المشاهد المعتادة مع لمسات فنية متنوعة، مما يخلق اندماجًا فريدًا مع المشهد المدني. 

تُعتبر ساحات المدن فضاءات حرة للتعبير، بعيدة عن القيود التي تفرضها المعايير الفنية الصارمة. في الأماكن المخصصة للعروض الفنيّة،و يُقدم العمل الفني دون أي ملهيات، حيث يختار الجمهور ما يريد أن يرى ويسمع. أمّ في الشارع فتتداخل الأصوات والضجيج وحركة الناس مع تفاصيل الحياة اليومية، مما يخلق تجربة غنية ومؤثرة.

فن الشارع ليس مجرد استعراض عابر، بل هو تفاعل اجتماعي يستهدف المارة بشكل عفوي، ويعتمد على مشاركة المشاعر والثقافة دون حدود. يضم هذا الفن آلاف الفنانين حول العالم، من ممثلين وموسيقيين ولاعبي سيرك وراقصين ورسامين ومغنين، وغيرهم سواء كانوا أفراداً أو فرقاً.

تتعدد أشكال فنون الشارع وأساليب التعبير فيها، فهي لا تقتصر على إثراء التقاليد الثقافية في بلد ما، بل تمثل أيضًا تجارب حيوية لخلق أشكال معاصرة. وتسعى فنون الشارع إلى تشكيل علاقة جديدة مع الجمهور، تتجاوز القواعد التقليدية للأداء المسرحي. 

من أبرز ميزات هذا الفن هو تنوّع موضوعاته، التي تتخطى الأسس التقليدية للعمل الفني المنضبط. تركز ممارسات الأداء في الشارع على العلاقة المباشرة مع المشاهدين، وتقدم عروضًا ترفيهية تحمل أبعادًا سياسية وإجتماعية تعكس حياة المدينة.

تتجلى الفروق بين عرض الشارع والعروض المسرحية في العلاقة الوثيقة بين الفنان والجمهور. في الشارع، يواجه الفنان جمهوره مباشرة، بينما في المسرح، يكون الفنان غالبًا على مسافة منفصلة عن الجمهور. علاوة على ذلك، لا يُمكن للفنان رؤية الجمهور دائمًا، حيث غالبًا ما يكونون في الظل. 

باختصار، يتميز أداء الشارع بتواصل وثيق بين الفنان وجمهوره، مما يعزز من تجربة المشاهدة. ومع تزايد حضور فنون الشارع في العصر الحديث، تظل التساؤلات حول خصوصية هذا الأسلوب وتثير النقاشات. كيف يتفاعل الفنان مع الفضاء والهندسة المعمارية المحيطة به؟ وكيف تُشكّل هذه التفاعلات تجارب المشاهدين اليومية، مُحدثةً لهم مفاجآت تُضفي طابع الراحة والسكون على حياتهم؟