طوفانٌ بلا سفينة

طوفانٌ بلا سفينة

  • ١٥ كانون الثاني ٢٠٢٥
  • جورج طوق

إنّها من سخريات القدر أن تصبح نظريّة داروين اللادينيّ سفينة النجاة الوحيدة، لهذا الشرق المتديّن، من الطوفان الجارف: البقاء للأقدر على التكيّف مع المتغيّرات. المتغيّرات هائلة، والتكيّف جوهريّ.

إنمسحت معالمُ غزّةَ والسِنوار. سقط السيّدُ وإصبعُه. هرب الأسدُ برشاقةِ أرنبٍ، بعد نيّفٍ وخمسةِ عقودٍ من الزئير وأنين الفرائسَ. فالأولُ زرع عاصفةً بلا مَطَريّةٍ، والثاني أرسى ممانعةً بلا مناعةٍ على العدوّ. أمّا الثالث، فقد أخضع بلاده للجميع، إلّا لإرادةِ أهلِها. فالمحور الممانع حفّزّ طوفانًا بلا سفينةٍ، وأنزل على رقعته حِقدًا وكوارثَ بمقاييسَ توراتيّةٍ وأحزانًا ونهاياتٍ بسياقٍ تراجيديٍّ شكسبيريّ. ٢٠٢٤؛ عامٌ أسودُ على الممانعة.

«الربع الأول من القرن الحالي»
في الربعِ الأخير من العام ٢٠٢٤، تغيّر الشرق الأوسط أكثر من تغيّره في الربع الأول من القرن. انطلق القرن بحَدَثين مَهيبَين، كانا صفّارةَ البداية لعصر النفوذ الإيرانيّ في المنطقة: ١١ أيلول، وغزو العراق. أعطى إنهماك الأميركيّين بالإرهاب السنّيّ مراحًا، بعيدًا عن رادارات الغرب، للشيعيّة السياسيّة في العالم، بقيادة الوليّ الفقيه، لا سيّما مع سقوط صدّام: الخصم الجدّي الوحيد للثورة الإسلاميّة. في العام ٢٠٠٥، شكّل الخروج المفاجئ لعسكر الأسد من لبنان، عقب جريمة ١٤ شباط، نهاية الحجم الإقليميّ لنظام صيدنايا، وحوّله إلى لاعب إحتياطٍ، في صفوف أذرع الحرس الثوريّ. ومع حرب تمّوز ٢٠٠٦، إنهزم النفوذ الخليجيّ، كلّيًّا، في لبنان، وكانت بيروت، ثاني العواصم العربيّة المُمسوكة بالقبضة الإيرانيّة، بعد بغداد. مع انطلاق الربيع العربيّ، في العام ٢٠١٠. علقت المنطقة العربيّة، بين سندان الثورات والمطرقة الإيرانيّة، واستعر صراع النفوذ بين العرب والفرس، حتّى بلغت النار دمشق وصنعاء، تحت أعين العمّ سام الشاخصة على التنازلات الضخمة. تنازلاتٌ لم تتأخّر ولم تبخل.

«الربع الأخير من العام المنصرم»
ربع قرنٍ من صراعات النفوذ، الباردةِ، حينًا، والملتهبةِ، حينًا آخر، اكتسبت، خلالها، الولايات المتّحدة أكثر ممّا تبغي من تنازلات المصارِعين فوق حلبة الشرق الأوسط: سقوط القضيّة الفلسطينيّة، بحدّةٍ، عن سلالم الأوّليّات. سقوط التواصل العربيّ الرسميّ، مع إسرائيل، عن لائحة «التابوهات» السياسيّة. سقوط المشروعَين: النوويّ وتحرير القدس الإيرانيّين، من قمّة الجدّيّة والحدّة إلى قعر السذاجة والشعبويّة. تُوّج السقوط الأخير هذا بتقديم إيران كنز الغاز اللبنانيّ لإسرائيل على طبق خزعبلة الخط ٢٩، والمساندة المسرحيّة للغزاويّين. في شطرنج الكبار، يسقط الشّاه، مهما علا شأنه، عند نفاد تقديماته. في الربع الأخير من العام ٢٠٢٤، كان وقت الحصاد، للأميركيّ، قد حان. فالأخير بدا أكثر مهارةً، في حياكة السجّاد السياسيّ، من الفرس. مزّق الأميركيّون، في ربع عامٍ، سجّادةً إقليميّة، حاكَها الفرس على مدى ربع قرن، وباتت الثورة الإسلاميّة تمدّ أرجلها… وأذرعها، بقلقٍ شديد، على قدر بساط طهران.

«البقاء… للأقدر على التكيّف مع المتغيّرات»
إنّها من سخريات القدر أن تصبح نظريّة داروين اللادينيّ سفينة النجاة الوحيدة، لهذا الشرق المتديّن، من الطوفان الجارف: البقاء للأقدر على التكيّف مع المتغيّرات. المتغيّرات هائلة، والتكيّف جوهريّ. غزّة ذهبت مع الموت والنار، ويبدو مصير الفلسطينيّين، اليوم، مُعلّقًا بين يديّ المحتلّ وحده، وطبائع الأخير لم تبشّر بخيرٍ يومًا. إيران تُجيد، تاريخيًّا، الإلتزام بالقواعد الكبيرة، وتوقن، تمامًا، أنّ نظامها بات أولويّتها القُصوى. سوريا نجت من كابوس الأسد بكلفةٍ خياليّة. هي تبدو أفضل حالًا بعد تشرّد سفّاحها وأعوانه. الشرع، ذو الخلفيّة الإسلاميّة، يبدو، حتّى اللحظة، الأكثر تمسّكًا بنظرية التكيّف الداروينيّة، وإن كانت العبرة في التنفيذ. وحدهم الساسة اللبنانيّون، ممانعون وسياديّون، يقاومون التكيّف والتغيير والتأقلم. فهُم، بلا سفينةٍ، غارقون في طوفان من الأزمات والأخطار والإنكار، ومتمسّكون بجلودهم الرثّة القديمة. الهندام نفسه والذهنيّة نفسها والخبث نفسه. لبنان، في نهاية المطاف، ذائع الصيت بقرب شاطئه من الجبل… وبإهداره الفرص.