ساعات سلفادور دالي المائعة وزمننا اللبناني الضائع

ساعات سلفادور دالي المائعة وزمننا اللبناني الضائع

  • ١٥ أيلول ٢٠٢٤

 

من أقلام الطلاب.. كتبت تيريزيا الدريبي

ينساب الزمن كألسنة من الشمع الذائب، غارقاً في بحرٍ من الغموض و التشتت. حيث بات جوهر الوجود يذوب تحت وطأة الوعود، «إبرة مورفين» تعطى قطرة قطرة و ينام العقل وعقارب الزمن الملتوية تذوب رويداً رويداً في نار الألم فتصبح  فتاتاً ، وعلى هامش الحياة يقف الزمان،  الوقت بات أرقاماً في خانة النسيان.

تعد لوحة «الساعة المائعة» واحدة من أشهر أعمال الفنان الإسباني سلفادور دالي، المبدع البارز في الحركة  السريالية. رسمت اللوحة في عام 1931، وهي تجسيد فريد لرؤية فنية تتحدى مفاهيم الزمن والواقع.
تأخذنا لوحة «الساعة المائعة» إلى عالم متخيل حيث تتآكل عناصر الزمن في مشهد يراوغ بين الأحلام والواقع. تتسم اللوحة بتفاصيلها الغريبة والمتناقضة، حيث تذوب الساعات على الأشجار والآثار الصخرية، مما يخلق تأثيراً بصرياً يوحي باللامبالاة التي نُظهرها تجاه الزمن كأحد الثوابت الكبرى في الحياة. يُضاف إلى هذا المشهد الحيوان الفطري الغريب الذي يشبه العثة، والذي يبدو مشوشاً مثل بقية المشهد، ما يبرز انعدام الاستقرار.
رُسمت اللوحة في فترة ما بين الحربين العالميتين، وفي خضم الحرب الأهلية الإسبانية. عندما كان العالم يمر باضطرابات سياسية واجتماعية هائلة, رغم غياب الدلائل الواضحة لثأثيرات مناخات الحرب على اللوحة. لذا قد تكون «الساعة المائعة» تعبيراً عن قلق دالي من الاستقرار والواقع، وهي تعكس تأثيرات الفلسفة السريالية التي كانت تسعى إلى تحرير العقل من قبضة المنطق والعقلانية. كانت الفترة التي أنجز فيها دالي هذه اللوحة مليئة بالتجارب الشخصية والفلسفية التي أثرت في رؤيته الفنية.
تُعتبر «الساعة المائعة» تجسيداً للقلق الوجودي والبحث عن معنى في عالم غير مستقر. تستفز اللوحة المتلقي لتجاوز الحدود التقليدية في التفكير عن الزمن والواقع. إن استخدام دالي للألوان الزاهية والتفاصيل الدقيقة يخلق تأثيراً يتجاوز حدود التفسير التقليدي، ويدفعنا للتفكير في طبيعة الزمن والعقل.
تُعد لوحة «الساعة المائعة» مثالاً بليغاً على قدرة الفن على الغوص في أعماق الوجود البشري وتجسيد مشاعر الاضطراب والتساؤل. في سياق لبنان، الذي عرف تاريخاً حافلاً بالتحولات السياسية والاجتماعية، يمكننا أن نرى في هذه اللوحة مرآة لعالم يتأرجح بين الثوابت والمتغيرات، حيث يصبح الزمن مثل الساعات المائعة، غير قابل للتحديد والثبات.
في هذا البلد الممزق بين نزيف الماضي و تجميد الحاضر، تتشابه مفاهيم هذه اللوحة مع تجربة اللبناني اليوم، حيث تتداخل أحلام كل مواطن مع واقع متغير ومأزوم، في مسيرة انحدارية، تعيد عقارب ساعاته الى الوراء. أليس عبثياً في القرن الواحد والعشرين إنقطاع الكهرباء وطوابير المحروقات، وتمجيد الحكام، وتدمير مدينة على رؤوس أبنائها، إنّ ساعة « دالي» المشوهة ألا تشبه من يشوّه الواقع ويصنع الأزمات ،ويستولي على مقدرات الناس،  ألا تشبه تجاور الأضداد في يومياتنا ، الفرح والحزن، السلام والحرب، الفقر والثراء غير المبررين، العبثية واللايقين بفعل الأزمات المتلاحقة، العودة الدائمة الى لغة الماضي لمعالجة الحاضر، الفساد وتقاعس القضاء. الشعور الدائم بالتهديد والشكوك إن كان اللبناني سيعيش ليرى «اليوم التالي». وبالفن جماعة التواصل الاجتماعي قرروا أنّ كارلا شمعون كأنّها فيروز الثانية، وهكذا دواليك، كلها تناقضات تخرج عن حدود المنطق الى مناخ سوريالي يعاد فيه تشكيل واقع غير مفهوم بالمنطق المتعارف عليه. 
و من رحم هذه الساعات الذائبة تلد المرونة ،التي تكبر مع الزمن، رغم العيش في مستنقع بائس، تفتح الباب لمساحة من التخيل أنّ أحلك الظروف، وأكثر الوقائع تناقضاً قد تكون قابلة للتغيير رغم إنعدام كل الفرص المرئية.
 تذكّرنا هذه اللوحة أنّ في عالمنا، مثلما في عالم دالي، أنّ الاستقرار الحقيقي قد يكون مجرد وهم يذوب مثل ساعات دالي التي تتهاوى في صمت.