تبّاً لكم!

تبّاً لكم!

  • ١٨ تشرين الأول ٢٠٢٤
  • أنطوان الخوري طوق

لقد هبّوا دفعة واحدة بعد أن إستيقظ الوحش التلمودي مطالبين برّد الإعتبار للدولة التي نهبوها والتي شلّعها تقاسمهم للمغانم والحصص والحسابات المصلحية الصغيرة.

بعد أن أيقظوا الوحش التوراتي، وأعادوا فتح شهيته للدماء ولحم الأطفال، وبعد أن أدخلونا عن سابق تصوّر وتصميم في هذا الليل الطويل من الفجائع والمآسي حيث يتناثر البشر والحجر والأحلام والذكريات والأماكن الأليفة ودمى الأطفال، وبعد أن سمّرونا  أمام الشاشات نتسقّط أخبار الميدان من هيئة البث الإسرائيلية في غيابهم ونحن نتابع عدادات المذابح والخراب مستشعرين في أفواهنا طعم دمائنا وطعم الحرائق والدخان.
 أيقظوا الوحش واستيقظوا فجأة معه كالفيلة في غرف الزجاج مطالبين بردّ الإعتبار للدولة بعد أن تنكروا لمؤسساتها الدستورية طويلاً، وبعد أن عطّلوا الحياة السياسية، ها هم يطالبون بردّ الإعتبار للجيش وللقرارات الدولية لا سيما القرار 1701 وإتفاق الطائف وإتفاق الهدنة عائدين خائبين الى ما قبل الثامن من تشرين من العام الماضي بعد أن ضيّعوا كلّ الفرص لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
 أين كانوا ومن أيّ ماضٍ سحيق جاؤوا وقد بُحّت الحناجر المحلية والدولية حتى الملل وهي تطالبهم بانتخاب رئيس للبلاد يعيد إنتظام المؤسسات ويرفع الصوت اللبناني عالياً في المحافل الدولية. بينما كانوا يتساجلون ويصرّحون ويستقبلون ويودعون ويدورون حول  أنفسهم في هدر مريع لفرص الإنقاذ والتي حملها إليهم موفدون من شتى أنحاء العالم ومن دون أن يحسبوا أيّ حساب للوجع اللبناني الذي بات أكبر منهم جميعاً. إذ لم يبقَ قريب أو بعيد إلّا وطالبهم باحترام المواعيد الدستورية وتوسّل إليهم ليفتحوا أبواب مجلس النواب في ظلّ حكومة دمية بتراء يقاطع وزير دفاعها جلسات مجلس الوزراء وسط الحرائق التي تلتهم الأخضر واليابس. ويهرج وزير خارجيتها في أعلى المنابر.
لم يعرف العالم مثل هذه الطبقة السياسية الفاقدة الصلاحية في تخلّيها عن المهام التي أوكلها إليها الناس لتحافظ على أعمارهم وكرامتهم وأرزاقهم ومستقبل عيالهم.
وعلى وقع الغارات والإنفجارات استيقظوا فجأة بعد أن إستنفدوا ثقة العالم بهم.
وها هم  اليوم يرقصون رقص السعادين فوق جثث اللبنانيين وبيوتهم المهدّمة على رؤوسهم. 
لقد هبّوا دفعة واحدة بعد صمتهم عن إيقاظ الوحش التلمودي مطالبين برّد الإعتبار للدولة التي نهبوها والتي شلّعها تقاسمهم للمغانم والحصص والحسابات المصلحية الصغيرة. بعد أن حوّلوا اللبنانيين الى مشرّدين على أبواب مراكز الإيواء وعلى الأرصفة التي مارس قوادو السياسة منهم الزنى السياسي عليها طويلاً. بعد أن شربوا نخب الوطن نهاراً ودماءه ليلاً.
فمن أعماق هذا الجرح اللبناني النازف، ومن عتمة القبور المتناثرة على إمتداد الجغرافيا اللبنانية ومن دون عنتريات إستعلائية، ومن دون شماتة ومن دون نفاق ملوك الطوائف ودموع التماسيح على فرص ضائعة وعلى رهانات وهمية قاتلة، ومن دون تكفير وتخوين وإتهامات ووصفات جاهزة، ومن دون إعادة توصيف للكيان العنصري الغاصب وتوحشّه وهمجيته وإنفلاته من عقاله ولا مبالاته بالشرائع والقوانين الدولية والأخلاقية نقف ونتساءل:
 ألم يحِن الوقت للتواضع والنزول عن القبب العالية الى أرض الواقع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الوطن الصغير الذي لا طاقة له على أحمال الحروب والصراعات الإقليمية الثقيلة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا البلد الجميل حيث الحياة أحلى من الآخرة. وهو الذي كان درّة التاج في هذا الشرق القلق بصحفه ومدارسه وجامعاته ومطابعه ومراكزه الصحية وفنادقه، وجمال طبيعته وعراقته التاريخية وهناءة العيش فيه، هذا البلد الذي كان جميلاً بشعرائه وأدبائه ومفكريه ومبدعيه ومنتدياته الثقافية والذي كان درّة الشرق بفيروزه ورحبانييه…
نعود ونتساءل ألم يحن الوقت لمراجعة الذات ولطرح الأسئلة المحرّمة والتي مُنع اللبنانيون من طرحها بالقتل والوعيد والترهيب والتخوين.
ألم يحِن الوقت للإفادة من دروس التجارب اللبنانية الفلسطينية المؤلمة السابقة والتي كلّفت اللبنانيين والفلسطينيين غالياً.
ألم يكن من الأجدى وقبل وبعد إيقاظ الوحش جعل لبنان منصة حقوقية وسياسية وثقافية لنصرة القضية الفلسطينية، وحملها في المحافل الدولية وبلدان الإنتشار اللبناني، بدلاً من زجّه في حروب إلهية غاضبة وموتورة ومدمّرة، وتحويله الى ساحة كباش بالوكالة بين الفرس واليهود. 
ولقد دلّت التجارب على أنّ التحالفات بين الدول والطوائف لا تدوم طويلاً وغالباً ما ترتد بالويلات على الجماعات الطائفية، كما دلّت التجارب على أنّ النخب اللبنانية كانت السبّاقة في التنبيه على خطر ما تمثله إسرائيل ، كما كانت السبّاقة في حمل وطرح القضايا العربية والقضية الفلسطينية تحديداً.
وبما أنّ اللبنانيين قد عادوا خائبين ومجرّحين من رحلات الإستعلاء والإستقواء على بعضهم البعض وبأنّهم محكومون بالعيش معاً، ولا حياة لهم دون الشراكة  في بناء الدولة. فإنّنا مدعوون الى السؤال، بما إنتفعت غزّة وفلسطين من تحويل لبنان الى ركام في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية في ظلّ وصمت الأقربين والأبعدين؟
وبما تنتفع فلسطين من تحويل هذا البلد المتنوّع والمتعدّد والذي يشكل بتكوينه أكبر ردّ على عنصرية إسرائيل الى دولة غيبية دينية متطرفة مشدودة الى ماضٍ سحيق لا يصلح ردّاً ناجحاً على تحديات الحداثة والعصرنة رغم إرادة الغالبية من أهله، وهو كان السبّاق في بزوغ أنوار النهضة من جباله وأوديته وأديرته؟
 ألم يحِن الوقت لبروز قادة جدد لا يهربون من رائحة البشر ومن مصافحة البشر ولا من أكل الخبز مع البشر ولا من النوم في سرير واحد مع أحزان البشر، ومن خلال العمل السياسي يحاولون الإنقضاض على بشاعة الواقع اللبناني دون أن يبيعوا البلاد وأهلها في أسواق النخاسة الإقليمية والدولية خدمة لرهانات غريبة قاتلة. 
 لقد أتعبنا تاريخ هؤلاء السادة السائدين وأتعبنا تاريخهم الذي يعيد نفسه حتى التقيوء. 
 ألم يحِن الوقت ليستريحوا ويريحوا لنرتاح؟
لقد قدموا إلينا من ماضٍ سحيق تمّ فيه إستغباؤنا وإهانة ذاكرتنا، ولكنهم وصلوا متأخرين بعد تخاذل وتواطوء.