«ذاكرة المياه».. من القرنة السوداء الى نهر أبو علي

«ذاكرة المياه».. من القرنة السوداء الى نهر أبو علي

  • ٠٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
  • تيريزا كرم

صرخة سينمائية من القرنة السوداء لإنقاذ مستقبل لبنان المائي قبل أن يصبح مجرد ذكرى.

 

 

نظمت جمعية «ريف»، التي تهدف إلى تفعيل القضايا البيئية الحيوية في لبنان ونشر الوعي من خلال الفنون، لقاءً توعوياً تمحور حول عرض فيلم «ذاكرة المياه» في بلدة بشري للمخرجة ربيكا طوق الذي يروي رحلة المياه من أعالي القرنة السوداء على جبل المكمل وصولاً نهر أبوعلي في طرابلس. سلط الحدث الضوء على أزمة المياه المتفاقمة في منطقة القرنة السوداء والمخاطر التي تهدد التنوّع البيولوجي ومصادر المياه في لبنان.

إفتتحت اللقاء الناشطة البيئية والمشاركة في الفيلم، غوى فخري، مؤكدة على أهمية إثارة هذا الموضوع في منطقة غنيّة بالكنوز الطبيعية، معتبرة أنّ الأرض ملكاً للجميع، ولا تخضع للإنقسامات. وقالت: «الكل يشرب المياه نفسها ويتنشق الهواء نفسه، وبات الحوار ضرورياً لتبادل الأفكار والتعلّم من الأخطاء لتدارك التداعيات المستقبلية». تلا عرض الفيلم جلسة حوارية شارك فيها مهتمون وناشطون بيئيون.

أزمة وجودية: جفاف غير مسبوق وتهديد مناخي

قدّم الدكتور يوسف طوق، الطبيب والمناضل البيئي منذ أربعة عقود، تشخيصاً مقلقاً للواقع، واصفاً شح المياه هذا العام «بالتاريخي». وأوضح قائلاً:«أعتقد أنّنا لم نعهد هذا الجفاف منذ سبعين عاماً. الثلاجات المستدامة في القرنة السوداء، التي كانت تدوم من موسم إلى آخر، ذابت كلياً في شهر تموز هذا العام. كما شحّت مياه الينابيع من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب بشكل لافت، وبعضها جفّ تماماً».

وفي معرض حديثه عن العلاقة بين النشاط البشري والجفاف، فصّل الدكتور طوق قائلاً: «عندما نتحدث عن هذه الظواهر، يجب أن نفرّق بين الطقس والمناخ. فالطبيعة لها دوراتها الخاصة من جفاف وأمطار، وهذا أمر ثابت. لكن ما يفعله الإنسان عبر مساهمته في الإحتباس الحراري هو أنّه يسرّع من وتيرة هذه الدورات ويضخّم من آثارها. بمعنى آخر، قد لا يكون النشاط البشري هو السبب المباشر الوحيد لجفاف هذا العام تحديداً، ولكنه بالتأكيد هو المحرّك الذي يجعل تكرار مثل هذه السنوات الجافة أكثر إحتمالاً وشيوعاً. نحن نزيد من إحتمالية حدوث الظواهر المتطرفة، وهذا ما نراه اليوم بوضوح، حيث باتت السنوات الحارة والجافة هي القاعدة، والسنوات الماطرة هي الإستثناء»

الأسباب البشرية: سوء إدارة وتمدّد عشوائي

لم تقتصر الأسباب على التغيّر المناخي، بل تعدتها إلى الأخطاء البشرية المباشرة. فمن جهتها، أعربت المهندسة المعمارية جيسيكا طوق، المختصة بالتنظيم المدني، عن حزنها «للتلوّث العمراني وطريقة التفكير الضارة في توسّعه». وشدّدت على أنّ الأبنية تؤثر بشكل مباشر على مصادر المياه، حيث لا تؤخذ بعين الإعتبار مسارات جريان المياه الجوفية وآليات تنقيتها الطبيعية، محذّرة من الوصول إلى «نقطة اللاعودة» في إصلاح ما أفسده العمران العشوائي.

وأضاف الدكتور يوسف طوق أنّ مصادر المياه في لبنان، رغم غزارتها مقارنة بمساحته، تعاني من سوء إدارة كارثي. وقال: «الأخطر أنّ الينابيع تحت إرتفاع 1400 متر عن سطح البحر غالبيتها ملوثة بسبب النفايات المنتشرة فوق مصادر المياه، فضلاً عن غياب ترشيد الإستعمال، وقضية السدود التي يجب أن تخضع لدراسات بيئية دقيقة وفقاً للحاجة».

واختتم طوق حديثه بالتركيز على دور الأجيال القادمة، قائلاً: «التوعية حول الحفاظ على البيئة يجب أن تتناقلها الأجيال. الشباب هم الفئة المستهدفة بشكل خاص، فهذه قضية مصيرية لأنّ حياتهم ومستقبلهم مرتبطان بسلامة المكان الذي سيعيشون فيه».

المهندس المعماري ورئيس النادي اللبناني للتنقيب في المغاور جوني طوق، تناول أهمية نسافات الثلوج المتراكمة في القرنة  السوداء، والتي تُعدّ خزانات طبيعية تمدّ الينابيع بالمياه خلال فصل الصيف، وأشار الى السبل الآيلة الى حمايتها، من خلال منع التعديات العمرانية لا سيما في المناطق التي تعلو على 2400 متر. وتطرق الى عرض مفصل عن المخطط التوجيهي لمنطقة الأرز الذي يراعي الطابع البيئي والجغرافي للمنطقة، ويجيز عامل إستثمار 20 ٪، غير أنّ طوق حذّر من ضمّ العقارات الصغيرة لتكوين عقارات كبيرة، لأنّ ذلك سيؤدي الى زيادة نسبة البناء مما سيوثر سلباً على عدم إتساق النمط العمراني مع طبيعة وجغرافية المنطقة. فضلاًعن أنّ المشاريع الكبرى ستتطلب بنى تحتية ضخمة من مياه وصرف صحي وكهرباء تشكل ضغطاً بيئياً هائلاً في إطار جغرافي يفتقد الى القدرة الإستيعابية للمنشآت الضخمة، والأخطر أنّ أي تلوّث في منطقة الأرز سينعكس مباشرة على مياه مغارة قاديشا التي تُعدّ مصدراً أساسياً لمياه الشرب في بلدة بشري ما يحتم حماية جميع الينابيع التي تغذيها.إضافة الى حماية الينابيع الأخرى التي تُعدّ مصدراً لمياه الشفة في البلدة.

رالف شويري مهندس كومبيوتر وعضو المجلس البلدي المنتخب حديثاً. عبر عن إهتمام المجلس بالشأن البيئي، وأضاف أنّ المجلس بصدد وضع استراتيجية متكاملة، تتعلق بآلية لفرز النفايات ووضع مهلة زمنية قد تبدأ بحلول فترة عيد الميلاد، مع كل المستلزمات اللوجستية التي يتطلبها المشروع، فضلاً عن حملة توعية في المدارس والمجتمع ككل. أما بالنسبة للمياه فقال:«نحن نعمل على فحص مياه الشّفة بناء على توصية وزارة الصحة. كما أنّنا بصدد تجهيز وتفعيل محطة تكرير مياه الصرف الصحي ومن المتوقع أن يبدأ العمل فيها خلال شهرين»

الحلول الممكنة: من الإقتصاد الأخضر إلى المسؤولية الفردية

في مقابل هذا الواقع القاتم، طرح المشاركون حلولاً عملية ومستدامة. أوضحت نادين طوق، الخبيرة في بناء المشاريع والتخطيط، أنّ حماية البيئة لا تتعارض مع النمو الإقتصادي، بل هي مصدر لمداخيل جديدة. وقالت: «التجارب في العالم ولبنان أثبتت أنّ بإمكاننا زيادة المداخيل عبر المشاريع الصديقة للبيئة. المحميات الطبيعية تخلق فرص عمل بديلة، وتجذب السياح، وتؤسس لعلامات تجارية تسوّق منتجات محلية نظيفة، بعيداً عن الموارد الطبيعية الملوثة والأسمدة المضرّة».

وفي هذا السياق ذاته، أشار حسام حوا  المهندس البيئي  والمدير التنفيذي لشركة «ضفاف»  الى أهمية تعريف الشباب على «الوظائف البيئية» المتوفرة في لبنان، داعياً إلى إدراجها ضمن خطط الدولة الرسمية بدلاً من الإعتماد فقط على التمويل الخارجي. وأضاف أنّ الاهتمام بدأ يزداد بالبنى التحتية التي تراعي المعايير البيئية، خاصةً أنّ هذه الشروط أصبحت أساسية للحصول على التمويل.

دعوة للتحرّك: مسؤولية مشتركة لمستقبل الأجيال

أجمعت المداخلات على أنّ المواجهة تتطلب تضافر الجهود. فمن جانبها، أكدت المخرجة ربيكا طوق على وجود مسؤوليات عامة تقع على عاتق السلطات، ولكنها شدّدت أيضاً على المسؤولية الفردية: «حين نعي كأفراد معنى الثروة المائية والطبيعية، سندرك تلقائياً أنّ من مصلحتنا الحفاظ على هذه الموارد».

 إنّ «ذاكرة المياه» ليست مجرد عمل فنّي إنّما هو إنعكاس لواقع مقلق، يجدر بنا التحرّك قبل أن تصبح هذا الذاكرة سراباً.