الحرب الصامتة بين الرياض وأبوظبي: صراع النفوذ الذي يعيد رسم الشرق الأوسط
الحرب الصامتة بين الرياض وأبوظبي: صراع النفوذ الذي يعيد رسم الشرق الأوسط
الشرق الأوسط لا يُعاد تشكيله بالدبابات فقط، بل بالحروب الصامتة. الصراع مستمر، والخرائط لم تُرسَم بعد، لكن المؤكد أنّ المواجهة الأخطر هي تلك التي لا يسمع أحد صوتها.
بعيداً عن الأضواء، وبلا بيانات رسمية أو مواجهات مباشرة، تدور في الشرق الأوسط واحدة من أكثر الحروب تعقيداً وهدوءاً؛ حرب باردة إقليمية بين السعودية والإمارات. صراع لا تُستخدم فيه الجيوش النظامية ولا تُعلن فيه الجبهات، بل تُدار فصوله عبر وكلاء محليين، وخيارات ذكية، وحسابات طويلة النفس. وفي هذه الحرب، يظهر طرف يتقدم بخطوات محسوبة، فيما يتراجع الآخر رغم ضخامة الإمكانات.
في اليمن، تتجلى الصورة بأوضح أشكالها. دخلت الرياض وأبوظبي الحرب تحت راية واحدة، لكن بخريطتي طريق مختلفتين تماماً. السعودية خاضت معركة مفتوحة، مكلفة، قائمة على القصف والإنفاق اللامحدود، بهدف إعادة بناء دولة يمنية موحّدة. في المقابل، خاضت الإمارات حرباً باردة داخل الحرب؛ بنت قوى محلية موالية، سيطرت على الموانئ والسواحل، ومفاتيح الجغرافيا الاستراتيجية، ثم انسحبت عسكرياً بعدما أمّنت مكاسبها. اليوم، تخرج الرياض من اليمن مثقلة بالخسائر، فيما أبوظبي تحصد نفوذاً ميدانياً من دون أن تتحمل كلفة الإستنزاف الطويل.
المشهد نفسه يتكرر في السودان. هناك أيضاً، لم تتدخل الإمارات مباشرة، لكنها أتقنت لعبة النفوذ غير المباشر. دعم سياسي، قنوات مالية، وشبكات إمداد ذكية سمحت لقوات الدعم السريع بالتحوّل إلى لاعب مركزي. السعودية، على الضفة الأخرى، بقيت مترددة، حريصة على الشرعية الشكلية، وغير راغبة بالإنخراط الكامل. والنتيجة أنّ السودان تحوّل إلى ساحة نفوذ جديدة تميل كفتها لصالح أبوظبي، لا لأنّ الإمارات أقوى عسكرياً، بل لأنّها أدق في اختيار معاركها.
ما يجمع بين اليمن والسودان ليس فقط الساحة، بل الأسلوب. الإمارات لا ترمي المال في النار، ولا تراهن على الحسم السريع، بل تستثمر في الأشخاص، الجغرافيا، والعقد الاستراتيجية. تحسم بأقل كلفة وتخرج قبل أن يتحول الإستثمار إلى عبء. السعودية، في المقابل، ما زالت تتحرك بعقل الدولة الكبرى التي تعتقد أنّ المال والقوة الخشنة كافيان لتغيير الوقائع، لتكتشف لاحقاً أنّ الصراعات الجديدة لا تُدار بهذه الطريقة.
الأخطر أنّ هذه الحرب الباردة لم تصل بعد إلى ذروتها. ووفق مصدر إستخباراتي سعودي، فإنّ الساحة المقبلة لهذا الصراع الصامت قد تكون سوريا. ليست مواجهة مباشرة بالطبع، بل صراع نفوذ جديد تُعاد فيه هندسة التوازنات. السيناريو المتداول يتحدث عن دعم إماراتي لمسار علوي ساحلي، يهدف إلى إنشاء كيان علوي فعلي على المتوسط، مقابل دعم سعودي لأحمد الشرع كخيار سني سياسي – أمني في مواجهة هذا المشروع. مرة جديدة، لن تكون الحرب معلنة، ولن تُرفع الأعلام، لكن المعركة ستكون على شكل النفوذ والكيانات والخرائط الرمادية.
ما يجري اليوم يؤكد حقيقة واحدة؛ الشرق الأوسط لا يُعاد تشكيله بالدبابات فقط، بل بالحروب الصامتة. وفي هذه اللعبة، تبدو أبوظبي أكثر برودة، وأكثر دقة، فيما لا تزال الرياض تدفع كلفة التعلّم. الصراع مستمر، والخرائط لم تُرسَم بعد، لكن المؤكد أنّ المواجهة الأخطر هي تلك التي لا يسمع أحد صوتها.

