متى يعود الحريري إلى لبنان؟
متى يعود الحريري إلى لبنان؟
تأمل الجموع بعودة قريبة للحريري قبل الإنتخابات النيابية القادمة، فمجرد أوهام ستتبدد قريباً جداً.
لم تكن الزعامة السنية يوماً في لبنان شأناً محلياً خالصاً، بل تداخلت على الدوام مع نَفَسٍ إقليمي أعطى لهذه الزعامة معناها وحدود تأثيرها وامتدادها. فلبنان في بنيته السياسية لم يكن دولة تفصلها الجغرافيا عن محيطها، بل مساحة تفاعل بين عواصم تتنافس على فهم المشرق وتحديد موقعه، وتعيد إنتاج توازنات تتجاوز حجمه وقدراته. في هذا السياق، يصبح سؤال: متى يعود الحريري إلى لبنان؟ سؤالاً يتجاوز مصير رجل أو مستقبل تيار، ليطال لحظة إقليمية أعمق تُعاد فيها صياغة دور السنة في لبنان، ودور لبنان نفسه في خريطة الشرق.
إنّ سعد الحريري، بما يمثله من إرث سياسي وشبكات عربية ودولية، لم يكن مجرد نتاج بيئة لبنانية، بل نتيجة معادلة إقليمية طُبعت بطابع سعودي - سوري منذ نهاية الحرب الأهلية. تلك المعادلة، التي ولِدت في أعقاب إتفاق الطائف، قامت على إدراك مشترك بأنّ السنة في لبنان يشكلون جسراً عربياً في قلب المشرق، وأنّ إستقرار لبنان لا يكتمل دون توافق بين دمشق والرياض على طبيعة هذا الدور وحدوده. غير أنّ سنوات الحرب السورية، وما تلاها من إهتزاز للنظام الإقليمي التقليدي، حوّلت هذا الجسر إلى فراغ، وإلى ساحة تحاول أطراف كثيرة تعبئتها، دون أن تنجح في ملئها بشكل حقيقي.
منذ سقوط نظام بشار الأسد ووصول أحمد الشرع إلى السلطة في دمشق، لم تستطِع سوريا الجديدة أن تثبّت نفوذاً حقيقياً خارج حدودها. والسبب لا يعود لغياب الإرادة أو النية، بل لثقل الإرث الذي خلّفته الحرب، ومنها السيطرة الإسرائيلية على جزء من الجنوب السوري، الإدارة الذاتية للعديد من المناطق ذات الأغلبية الدرزية، إمتداد سلطة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية على مساحات واسعة، وما يرافق ذلك من تعثر في مفاوضات إعادة بناء الدولة. هذا التفكك الداخلي جعل دمشق منشغلة بإعادة بناء الداخل، أكثر من السعي لمد النفوذ، لكنها في الوقت ذاته تعلم بشأن الفرصة السانحة في لبنان، وتحديداً فراغ القيادة السنية فيه.
فبعد إنسحاب الحريري من المشهد السياسي، ظهر العجز عن ملء الفراغ، لا من خلال زعامات محلية ذات حضور محدود، ولا من خلال قوى سياسية كانت تستثمر في لحظة غيابه أكثر مما كانت تنتج مشروعاً بديلاً. وهنا بدأت بعض الأوساط السنية في لبنان تنظر إلى أحمد الشرع بعين فضولية، إن لم نقل إيجابية، ليس حبّاً في دمشق ولا نسياناً لسنوات ثقيلة، بل بحثاً عن مرجعية، فيما تشعر الجموع بحاجة لمن يمثلها، أو على الأقل لمن يعيد تعريف علاقتها بالمحيط.
من جهة أخرى، تبدو السعودية أمام مراجعة عميقة لدورها في المشرق. فالمملكة التي أعادت تعريف رؤيتها الإقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، ونجحت في ذلك، تنظر إلى المنطقة بمنظور شراكات توازن لا محاور إستنزاف. وبدلاً من إدارة لبنان كملف منفصل، صار يُنظر إليه كعقدة مركزية ترتبط بمجموعة من الملفات المتشابكة، كمثل مصير سوريا، أمن شرق المتوسط، الدور التركي المتقدّم في المجال السني، والحضور الإيراني الديني والإجتماعي والثقافي. في هذا الإطار، تصبح عودة الحريري أداة سياسية، لا إمتداداً لشخص ولا استعادة لماضٍ، بل خطوة ضمن استراتيجية تنافس وتفاوض.
فالسؤال الحقيقي ليس: هل تريد السعودية عودة الحريري؟ بل، متى ترى أنّ عودته تخدم معادلة جديدة تتشارك فيها مع دمشق إدارة الهوية السنية في لبنان؟ فالمعادلة القديمة لم تعد قابلة للحياة، والمعادلة الجديدة لم تتبلور بعد. السعودية لا تريد العودة إلى مرحلة ما قبل 2011، ودمشق لا تملك القدرة ولا الشرعية لتكرار ما قبل 2005. لكن كليهما يدرك أنّ الفراغ ليس حلاً، وأنّ ترك الساحة السنيّة دون هوية ناضجة يفتح الباب أمام قوى ثالثة ورابعة تستثمر في الإنقسام لا في التوازن.
إنّ عودة الحريري عند هذه النقطة تصبح مؤشراً لا حدثاً. لأنّ عودته قد تحمل معنى مزدوجاً، إعترافاً سعودياً بأنّ دمشق جزء من المعادلة، وإعترافاً سورياً بأنّ السعودية ضرورة وليست خصماً. وبهذا المعنى، قد يعود الرجل بوصفه حاملاً لفلسفة سياسية جديدة لا تقوم على الإصطفاف، بل على الإستفادة من التنافس لخلق مساحة إستقلال نسبي داخل لبنان. فالسنة لا يمكن أن يكونوا ملحقين بمحور، ولا يمكن أن يظلوا بلا محور. وحدها الشراكة الإقليمية على إدارتهم تمنحهم إستقلالاً نسبياً، لأنّ الإستقلال داخل لبنان وحده وهم، والإندماج الكامل في محور واحد خسارة للقدرة على المناورة.
هكذا يصبح السؤال مفتوحاً على توقيت سياسي لا جواب محلياً له: متى تشعر القوى الإقليمية أنّ سنّة لبنان بات قرارهم في سوريا؟ في تلك اللحظة فقط، تتحول عودة الحريري من احتمال إلى خيار، ومن رغبة إلى ضرورة.
إنّ عودة سعد الحريري، إذا ما حدثت يوماً، لن تكون عودة زعيم غائب يبحث عن جمهور افتقده. بل ستكون إعلاناً بأنّ مرحلة جديدة بدأت في المشرق العربي، تُكتب بخطوط استراتيجية لا بخطابات إنتخابية، وتُقاس بمدى قدرة اللاعبين على بناء التوازن لا على تكريس الغلبة. إنّها عودة معادلة قبل أن تكون عودة شخص، وعودة دور لبنان كجسر، لا كجدار، بين مشرق يُعاد بناؤه وخليج يُعاد تعريف دوره.
وعندما تنضج تلك اللحظة، سيعود الحريري. أما تأمل الجموع بعودة قريبة له قبل الإنتخابات النيابية القادمة، فمجرد أوهام ستتبدد قريباً جداً.

