«مطهر» جبران باسيل.. فرصة نحو المستقبل

«مطهر» جبران باسيل.. فرصة نحو المستقبل

  • ٢٢ كانون الأول ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

في السياسة، لا يُحاسَب القادة على نواياهم ولا على خطاباتهم، بل على اللحظة التي امتلكوا فيها شجاعة القطيعة، أو فاتهم قطارها.

لم يعد التيار الوطني الحر بحاجة إلى مزيد من الشرح، ولا إلى خطابات مطوّلة تحاول تلميع مرحلة احترقت سياسياً وشعبياً. فالوقائع باتت أوضح من أي رواية؛ سنوات المشاركة في الحكم لم تُنتج إنجازاً مقنعاً، ولم تحفظ رصيداً شعبياً، بل تركت التيار مكشوفاً أمام غضب الناس، ومتهماً (بإنصاف أو بظلم) بأنّه كان شريكاً في الانهيار الكبير، أو على الأقل أحد شهوده الصامتين.

المشكلة لم تكن تفصيلاً إدارياً ولا خطأً تكتيكياً. كانت مساراً كاملاً من الخيارات الخاطئة، أو المؤجلة، أو الملتبسة. التيار الذي دخل السلطة بإسم «الإصلاح والتغيير» خرج منها محمّلاً بتهمة الانتماء إلى المنظومة نفسها التي وعد يوماً بتفكيكها. ومع كل تسوية، كان يخسر جزءاً من صورته. ومع كل تبرير، كان يخسر شريحة جديدة من جمهوره ونوابه.

الخسارة الأكبر لم تكن في الصناديق فقط، بل في الوجدان. فالطبقة الوسطى، خصوصاً في جبل لبنان، التي شكّلت العمود الفقري للتيار، شعرت بأنّ خطابه لم يعد ممثَّلاً لها، وبأنّ خياراته لم تعد تشبهها. تراجع الحماس، وتحوّل الدفاع عن التيار من قناعة إلى حرج، ومن مشروع إلى عبء.

أما التحالف مع «حزب الله»، فكان العامل الأثقل والأكثر كلفة. تحالف لم يُدار ببراغماتية ذكية، ولا بشروط واضحة، بل تحوّل إلى علاقة استنزاف أحادية الإتجاه. لم يُحرج أي فرد من «حزب الله» من التحالف مع التيار، لكن حُرج كثيرون من التيار بالتحالف مع الحزب.

دافع التيار عن الحزب في محطات مفصلية، وغطّى خياراته الإقليمية، وصمت حيث كان الصمت مكلفاً، من دون أن يحصل في المقابل على حماية سياسية، أو مشروع دولة، أو حتى احترام لتمايزه المفترض. وكلما حاول تبرير هذا التحالف، بدا كمن يدافع عن عبء لا عن خيار.

اليوم، يقف جبران باسيل أمام مفترق نادر. لحظة سياسية لا تتكرر كثيراً، لأنّها تأتي بعد الخسارة لا قبلها. إما أن يبقى أسير حسابات الماضي، أو أن يفاجئ الجميع بخطوة صادمة تعيد خلط الأوراق. إعادة الإنطلاقة الحقيقية للتيار لا تمر عبر إعادة تدوير الخطاب نفسه، بل عبر كسر الحلقة التي قيدته.

الذهاب إلى الإنتخابات النيابية وحيداً ليس مغامرة عبثية، بل امتحان ضروري، هو «المطهر» الذي يُكفّر عن الذنوب. انتخابات دون تحالفات كبرى، دون مظلات ثقيلة، ودون مقاعد مضمونة سلفاً. فقط التيار، بمرشحيه، بخياراته، بأعلامه وألوانه، وربما بتفاهمات محلية محدودة لا تمسّ جوهر القرار ولا تفرغه من مضمونه. خطوة كهذه لا تعني الإعتراف بالخسارة، لكنها طبعاً تعني استعادة القرار.

قد تكون الحصيلة أقل عدداً: 12 نائباً أو 13 بدل 16 أو 18، لكن الفرق جوهري. نواب فازوا بقوة التيار لا بقوة غيره، ويدينون بالولاء السياسي له لا بفضل التسويات. كتلة أصغر حجماً، لكنها أكثر تماسكاً، وأكثر قدرة على اتخاذ موقف واضح من الدولة والسلاح والإصلاح. فالعبرة لم تكن يوماً في عدد المقاعد، بل في صدقيتها وقدرتها على التأثير.

الخلاص السياسي لباسيل لا يكون بالإلتفاف على المشكلة، بل بمواجهتها مباشرة. التخلي عن «حزب الله» ليس تفصيلاً ولا حركة تجميلية، بل شرط أساسي لأي محاولة جدية لاستعادة ثقة الشارع واستعادة الموقع السياسي. والمفارقة أنّ الحزب والثنائي الشيعي عموماً باتوا اليوم بحاجة إلى التيار أكثر مما هو بحاجة إليهم. موازين القوى تغيّرت، لكن الجرأة على الإعتراف بذلك لم تنضج بعد.

أما على المستوى الخارجي، فإنّ أي حديث عن كسر العزلة أو رفع العقوبات عن باسيل تحديداً يبقى بلا معنى طالما أنّ الخيارات السياسية لم تتغير فعلياً. لا أحد في الخارج يشتري خطاب «الاستقلالية والتمايز“» طالما القرار ما زال مربوطاً بتحالف يمنع المراجعة ويقمع المسافة.

المفارقة الأكبر أنّ فرصة باسيل اليوم قد تكون أوسع مما كانت عليه في ذروة نفوذه. حين كان محاطاً بالحلفاء، كان مكبلاً بهم. وحين كان قوياً بالأرقام، كان ضعيفاً بالقرار. اليوم، هو أضعف شعبياً، لكنه يمتلك فرصة نادرة ليكون أكثر حرية سياسياً.

التيار الوطني الحر لا يحتاج إلى تغيير إسم، ولا إلى إعادة صياغة شعارات ولا إلى نبش الماضي. يحتاج إلى صدمة سياسية تعيد تعريفه من الداخل. خطوة واحدة واضحة، مكلفة، لكنها صادقة. إما أن يفاجئ جبران باسيل الجميع فعلاً، وينطلق نحو مستقبل مختلف، أو يبقى يدور في حلقة الدفاع عن ماضٍ لم يعد قابلاً للدفاع عنه.

في السياسة، لا يُحاسَب القادة على نواياهم ولا على خطاباتهم، بل على اللحظة التي امتلكوا فيها شجاعة القطيعة، أو فاتهم قطارها.