هل تنحى مسيحيّو فلسطين جانباً؟

هل تنحى مسيحيّو فلسطين جانباً؟

  • ٢١ كانون الثاني ٢٠٢٤
  • عبدالله ملاعب

«الحجارة الحية»، هو لقب يطلق على مسيحيي فلسطين، أقدم الجماعات المسيحية في العالم ولأنّ العديد من الأسر تمتد أصولها إلى المسيحيين الأوائل الذين عاصروا المسيح في فلسطين. فهم مُكونٌ فلسطينيٌ تقلّص عددياً في أرض المسيح حيث تراجعت نسبتهم من 11.2% قبل النكبة إلى 1% اليوم. مع ذلك بقي في فلسطين رجال يتابعون الرسالة والنضال بمختلف الوسائل. أين هم اليوم؟ وهل فعلاً تخلوا عن الكفاح المسلح؟

المسيح هو الفدائي الأول.. والمسيحيون أول من واجهوا الحركة الصهيونية

يحفظ التاريخ للمسيحيين أنّهم كانوا من أوائل الذين إكتشفوا خطر الصهيونية على فلسطين والمنطقة العربية. فقد كتب نجيب عازوري قبل النكبة بـ43 عاما «يقظة الأمة العربية» مُحذراً من المُخطط الصهيوني في فلسطين وداعياً لتشكيل كنيسة عربية فلسطينية موحدة. وأيضاً من قادة الفكر الفلسطينيين المفكر العالمي إدوارد سعيد والصوت الأكثر فعالية حول العالم في الدفاع عن القضية الفلسطينية ومن الشخصيات المؤسسة للدراسات ما بعد الاستعمارية ومؤلف كتاب الاستشراق أو – Orientalism الذي يُفكك العلاقة بين العالمين الغربي والعربي ويفضح الخطط الغربية لاستعمار العرب والسيطرة عليهم.

ففي سياق الكلام عن الكفاح المسلح لعقود في القرن الماضي، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ما كان دورهم في هذا الإطار؟ هل صدِئت فوهة البندقية الفلسطينية المسيحية؟ 

تاريخ المسيحيين في الكفاح المسلح:

«السيد المسيح هو الفدائي الأول»، جملة شهيرة للمطران هيلاريون كابوتشي الذي شارك في العمل الفدائي بأعلى مستوياته في سبعينيات القرن المنصرم، مستغلاً صفته الدينية لتهريب السلاح إلى داخل الأراضي المحتلة بالتعاون مع حركة فتح.
 فهم بعد المسيح، فدائيون مسيحييون قادوا الثورة الفلسطينية وحملوا السلاح لاقوا نصيبهم من المقاومة لأنّهم كسائر الفلسطينيين إضطُهدوا وهُجروا. كما أنّ شخصيات مسيحية عريقة إنخرطت لا بل قادت الكفاح المسلح كمؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش ورفيقه وديع حداد، ومؤسس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة، والأب إبراهيم جبر عياد الذي لقبه ياسر عرفات بفارس الكنيسة، وشاعر حركة فتح كمال بطرس ناصر. جميعهم من الشخصيات التي حملت البندقية وجاهرت بها. 
يتفق مسيحيو فلسطين على أنّهم رفضوا تاريخياً إعطاء مقاومتهم المسلحة قالباً دينياً. فلم يُشكلوا وهم في أوج كفاحهم، حركة فدائية مسيحية كما فعل المسلمون لا سيّما مؤسسي «حركة المقاومة الإسلامية» حماس. ولا يُنكر المسيحيون في هذا السياق أنّ هذا الخيار أتى إنطلاقاً من كونهم أقلية عددية في محيط يغلب عليه الطابع الاسلامي. 

(جورج حبش - أحد أبرز وجوه الكفاح المسيحي المسلح)

أسلمة القضية الفلسطينية مرادف لتصفيتها

يشرح إدوارد كتورة، القيادي الفلسطيني الفدائي في التيار الإصلاحي ضمن حركة فتح مراحل أسلمة القضية الفلسطينية. ويعتبر أنّ هذا المخطط بدأ عام 1987 مع حركة حماس. مُذكرا أنّه يوم حمل المسيحيون والمسلمون في التيارات والحركات اليسارية العلمانية البندقية بوجه إسرائيل، كان الإخوان المسلمون، الذين إنبثقت عنهم حماس، يرفضون الكفاح المسلح وقد إقتصر عملهم آنذاك على التعبئة الدينية فقط.  
يشرح كتورة من بيروت، العاصمة التي أعطت القضية الفلسطينية ما لم تعطِها أي عاصمة أخرى، خطورة المشروع الهادف لأخذ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى منحى ديني. يقول لـ «بيروت تايم»: تخدم حركة حماس العدو الإسرائيلي بسعيها لأسلمة العمل المقاوم، لكون العدو يسعى لتصوير الصراع على أنّه بين يهود يدافعون عن حقّهم في إقامة دولتهم ومسلمين متطرفين يعيقون ذلك. 

 

إدوارد كتورة: قيادي فلسطيني فدائي في التيار الاصلاحي ضمن حركة فتح

ويوافق كتورة في هذا التوصيف، القس د. متري الراهب، رئيس جامعة دار الكلمة في بيت لحم الذي أكد أنّ المسيحيين يقفون حجر عثرة بوجه مخطط إسرائيل لتحويل الصراع إلى صراع ديني يستنهض الدعم الغربي لإسرائيل. ويشرح الراهب أنّ إرتباط  مسيحيي فلسطين مع الغرب يُشكل عائقاً أمام البروباغندا الإسرائيلية، لذلك تضيّق الخناق عليهم، في بيوتهم وكنائسهم وأراضيهم كي يخرجوا منها فيسهل الإعتقاد حينئذٍ أنّ إسرائيل تواجه مسملين متطرفين.

وفي مقابل السردية الإسرائيلية فإنّ سلوكيات حماس إقصائية للمسيحيين لاسيما الفدائيين منهم. يقول كتورة: «نحن أيضا نقول لا إله إلّا الله عند فتح النار إنّما نقولها بصوت منخفض دون صراخ». ويسأل، «إنّ كان مشروع حماس فعلاً تحرير فلسطين لماذا تريد أن تخسرني أنا كمسيحي»؟ ويستجمع ذكرياته في المجلس الثوري لحركة فتح مشيراً إلى يهود إنضوا تحته وكانوا جزءًا من الكفاح المسلح. معتبراً أنّ مشروع أسلمة القضية غير وطني ولم يخدم فلسطين لا بل حصر العمل الفدائي بضوابط تضعها حماس لإحتكار القرار والمواجهة. 
وفي إطار مماثل تطرق  كتورة إلى الحركات العلمانية اللبنانية، في جبهة المقاومة الوطنية – جمول – التي إنقض حزب الله على مكوناتها في الجنوب اللبناني ليحتكر المقاومة، مستدركاً، هذا تماماً ما فعلته حماس في فلسطين.

يسأل كتورة، الجاهز لحمل السلاح شرط أن يكون ذلك ضمن إطار يخدم التحرير، عن جدوى إنتصار المسجد الأقصى وسقوط كل فلسطين. فلا يدعو حماس لنسيان الأقصى بل يطالبها أيضاً بالحديث عن إنتهاكات إسرائيل بحقّ كنيستي المهد والقيامة والوطن بأسره. 
كما يرفض مقولة أنّ المسيحيين ألقوا البندقية جانباً، بحجة أنّ فدائيي الضفة الغربية اليوم معظمهم من الشبان المسيحيين المنخرطين مع المقاومة المسلحة، ويُنفذون عمليات ضد العدو وهو على تواصل مع هذا الجيل المسيحي المسلّح اليوم في رام الله والقدس وبيت لحم وبيت ساحور وغيرها. ويرمي سهامه بإتجاه الإعلام الذي يعتّم على هذا الواقع لأنّه يعمل ضمن توجيهات سياسية هادفة لأسلمة القضية. وفي السياق نفسه، يُذكرنا كتورة بالشهيدة الزميلة شيرين أبو عاقلة وكيف أن نقاشاً دار بعد إستشهادها على يد العدو في أيار 2022 حول ما إذا كانت تستحق لقب «الشهيدة» لكونها مسيحية – كافرة بنظر البعض. 

 

 

مفكر و قسيس فلسطيني، كاتب و لاهوتي ومؤسس لمبادرات ريادية اجتماعية

المفكر والقسيس متري الراهب - رمز في الكفاح المسيحي السلمي

على عكس إدوارد كتورة، يأخذ القس متري الراهب مواقف أكثر مرونة، معتبراً  أنّ المسيحيين في فلسطين يقاومون بأشكال مختلفة تتخطى حمل البندقية. إذ إنّ رؤية الراهب لربما شبيهة بمنطق «أبو مازن» والمقاومة الناعمة، وهومستمر في الكفاح الجدّي ضد مشروع أسلمة القضية ومن ضمنه كتابة لاهوت كَنَسي فلسطيني، يسعى لمخاطبة الغرب بلغة الغرب التي يتقنها كرجل دين مسيحي وأكاديمي يحمل غصن الزيتون على كتف وصليب على كتف آخر، فهو يكافح في إطار كنسي ديني  لإيمانه بأهمية إظهار الحقائق  الدينية والتاريخية لمواجهة التعبئة الإسرائيلية في تأجيج النفوس ضدّ الفلسطينيين، مستذكراً خطاب نتنياهو منذ فترة وجيزة اقتبس فيه الأخير من الكتاب المقدس داعياً اليهود لعدم نسيان ما فعلوا بهم شعب عماليق، ليشجع بذلك على التطهير العرقي ضد غير اليهود من مسيحيين ومسلمين.(العمالقة عرب من البدو الرُحّال في جنوبي إرض كنعان وصحراء النقّب،وكانوا معادين لإسرائيل في المراحل الأولى من تاريخ إسرائيل) 

وتناول الراهب أحداث ما قبل عملية 7 أكتوبر2023، حيث تعرّض فيها المسيحيون من المستوطنين لأبشع أنواع التنكيل مثل البصق والإعتداء وكتابة عبارات مناهضة لهم ولديانتهم على جدران الكنائس والأديرة. معقباً «لم تنشأ المسيحية لا في روما ولا في غيرها، هي نبتة فلسطينية، وأول كنيسة شُيدت كانت في القدس عام 30 ميلادي». 
وفي الخلاصة، الرابط المشترك بين الفدائي إدوارد كتورة والقس متري الراهب أن الطرفين، بما يمثلان، ينكران تخلّي المسيحيين عن خيار المقاومة. ويعبران عن هاجس أسلمة القضية الفلسطينية التي نقلت كفاحهم من كفاح بارز إلى آخر خجول على وقع تقاطع فلسطيني إسرائيلي أدى إلى تهميش الحضور المسيحي.