قطاع المعامل والكسارات بمنأى عن هموم اللبنانيين وعن الحرب الدائرة في الجنوب. بل على العكس، بعض رواد هذا القطاع، لاسيّما أولئك الذين يعملون بطرق غير شرعية، وبغطاء من جهات نافذة في البلاد، كثّفوا أنشطتهم وأعمالهم لإستنزاف ما تبقى من موارد طبيعية وخيرات في هذا البلد. شهيّة رجال المال والسلطة تفتّحت على هذا القطاع الذي يشهد إزدهاراً منذ تسعينيات القرن الماضي.
وقد إزدادت تلك الشهيّة اليوم، حيث يرى كُثر من رجال المال في قطاع الكسارات أنّه مزراب ذهب، في خضمّ مشاريع «إعادة الإعمار» التي تشهدها بعض المناطق السورية. ليصح القول: «ثمّة من يريد إعادة إعمارسوريا من جبال لبنان».
وفي معرض الحديث، نعود إلى أيار من العام 2023، حيث أدّت أعمال الكسارات والمقالع في جرود كسروان إلى وقوع هزّة أرضية شعر بها أبناء المنطقة. وتكرّر السيناريو ذاته في حزيران من العام نفسه، ولكن في جرود زحلة، بعد محاولة تفجير حفرة داخل جبل لإستخراج الصخور وبيعها. فخرج وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين عن صمته وقتها وأعلن أنّ وزارته كانت قد أصدرت قراراً بإقفال تلك الكسارة، وأنّ هناك إشارة قضائية من المدّعي العام البيئي لإقفالها بالشمع الأحمر. والحادثة هنا مثال على قوة المافيا التي تتخطى أي قرار وزاري وحتى قضائي في كثير من الأحيان.
وفق دراسة صادرة عن الجيش اللبناني في العام 2017، يوجد أكثر من 1235 كسّارة عاملة في لبنان، بمساحة تبلغ 50 كيلومتراً مربعاً. وينظم هذا القطاع مرسوم صدر في العام 2002 للتخفيف من تبعات هذا القطاع على البيئة والإنسان. إلّا أنَّ القليل القليل من الشركات العاملة في هذا القطاع تلتزم بالمرسوم وما تبعه من قرارات صادرة عن وزارة البيئة، وذلك بإعتراف الوزارة نفسها.
هذا الواقع الإنحداري أدّى إلى أن ترتفع تكلفة التدهور البيئي الناتج عن الكسارات لأكثر من 610 ملايين دولاراً سنوياً، بحسب دراسة للبنك الدولي.
وشهد قطاع الكسارات في لبنان ازدهاراً بعد الحرب الأهلية (1975-1990) مع دخول البلاد مرحلة إعادة الإعمار. كما يصدر لبنان سنوياً مئات آلاف الأطنان من الإسمنت.
ويُنظم مرسوم صادر في العام 2002 عمل الكسارات في لبنان. وتعمل أكثر من 1330 كسارة في مساحة تبلغ 50 كيلومتراً مربعاً في كافة أنحاء البلاد، بحسب آخر دراسة إعتمدتها وزارة البيئة. وفي التفاصيل، تتوزّع الكسارات التي بمعظمها غير مرخصّة على المحافظات اللبنانية بالشكل الآتي: في بعلبك والهرمل 713 كسارة، 237 في جبل لبنان، 222 في الجنوب والنبطية، و158 في الشمال وعكار.
أما الفضيحة الكبرى، فتتمثّل بكون غالبية الكسارات تلك التي تنهش الجبال اللبنانية غير مرخصة بناء على أحكام مرسوم العام 2002.
ووفق للبنك الدولي، فإنَّ أكثر المحافظات تضرراً من الكسارات، هي محافظة جبل لبنان حيث يرتفع عدد الكسارات فيها، لاسيما في أقضية جبيل وكسروان والمتن، وقضاء عاليه الذي دمّرت فيه كسارات آل فتوش عين دارة، وتحوّل الملف سابقاً الى قضية رأي عام، تحديداً في العام 2016 يوم وقف أهالي البلدة ضدّ آل فتوش المعروفين بـ «ملوك الكسارات»، والذين لم يقيموا إعتباراً لأيّ من المعايير التي ينصّ عليها المرسوم التوجيهي للمقالع والكسارات مما أدى الى تأثيرات كارثية على صحة البيئة والإنسان في المنطقة.
ربما تكون تجربة «عين دارة» تلك هي الوحيدة التي أخذت البعد الذي يستحقه هذا الملف الذي يجوز تصنيفه إرهاباً بيئياً، لما تحمله ترسبات الغبار الصادرة من الكسارات، من أضرار على صحة الإنسان والمياه الجوفية على حد سواء فضلاً عن تغيير المعالم الطبيعية التي هي جزء من هوية جبل لبنان وتاريخه.
وبدراسة قصيرة للكسارات وإنتشارها، يتبيّن أنَّ تخطي مرسوم العام 2002 الذي يحمل رقم 8803/2002، بات أمراً عادياً. لا يقوم به أصحاب المال والأعمال فحسب إنَّما وزراء متعاقبون على مختلف الحقائب الوزارية لاسيّما وزارتي «الصناعة» و«الزراعة»، فالتراخيص لبناء معامل الكسّارات تصدر عن وزارة الصناعة، فيما تغطي وزارة الزراعة عمل المقالع من خلال تراخيص إستصلاح الأراضي مع تراخيص نقل الناتج.
مستحقات الدولة اللبنانية من الكسارات تبلغ 7 مليارات دولاراً.
قامت وزارة بيئة بتكليف منظمة الـ« UNDP » بتقييم تعويضات عمل الكسارات والمقالع والمرامل وتبيّن أنّ المبالغ التي يجب أن يدفعها أصحاب المقالع والكسارات تبلغ 7 مليار دولاراً، إن لم تقرر الدولة إلغاء إعفاء أصحاب المقالع والكسارات من دفع تلك المستحقات كما جرت العادة في كل عام، عبر الإلتفاف على تسديد المستحقات من خلال وزارة الزراعية. وفي السياق، أكّد وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين، في إتصال مع «بيروت تايم» أنَّ الوزارة ستقوم «في القريب العاجل، بإعلان الخطوات العملية التي بموجبها ستتلقى المستحقات المالية المترتبة عن عمل المقالع والكسارات»، وتتراوح تلك المستحقات بين مليارين و7 مليارات دولاراً. ولكن، لم يرِد في الموازنة لعام 2024 سوى تعديل رسوم رخص إستثمار مقلع أو كسارة من خلال البند 94 الذي نقلته لجنة المال والموازنة الى البند 69. ومن البديهي أن نسأل، هل ستنجح وزارة البيئة بجمع المستحقات المالية من معامل الكسارات والمقالع كما أشار الوزير ياسين؟ لعل ذلك يخفف من الفلتان الحاصل في هذا القطاع ويخفف الفاتورة البيئة؟
وستتابع «بيروت تايم» تفاصيل الملف ، لتسليط الضوء على كل من يتواطئ على اللبنانيين وصحتهم وبيئتهم التي هي حقّ للأجيال حاضراً ومستقبلاً قبل كل شيء.