البناء الحيّ: أحلام جوستينيانوس وصالح طوران.. وواقعية «أتاتورك»
بات بإمكان رئيس منظمة «شباب الأناضول» أن يستريح. فبعد نضال سنوات طويلة، حقق صالح طوران حلمه عندما تحوّل متحف آيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد منذ أربع سنوات بالتمام والكمال، في نيسان 2020، فغنِم الإسلام السني مسجداً فاخراً، وانزوى رواد المتاحف والكنائس الأتراك جانباً.
ينتمي طوران إلى جيل تركي وُلِد في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، فعاين عن قرب سطوة العسكر على الأتراك أواخر التسعينيّات، وعلى قسوة الأزمات الإقتصادية التي عايشوها في بداية الألفية. هذا الجيل رأى خلاصه من بنادق العسكر وإملاءات صناديق القروض الدولية بالإسلام السياسي، فانتسب إلى أحزاب نجم الدين أربكان في الثمانينيّات والتسعينيّات، ومن ثم إلى حزب رجب طيب أردوغان.
كُثر من هؤلاء الشبان اهتموا بالنضال السياسي والدعوي، فبات واحد منهم داعية إسلامي، وآخر يناضل من أجل السماح بلبس الحجاب في الإدارات الرسمية، فيما اختار آخرون الإنتساب إلى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم حالياً. أما طوران، فأخذ من آيا صوفيا قضية له، وأسّس الجمعيات وأصدر العرائض، وراح يجول في تركيا، لعشرات السنوات، لحث الناس والسلطة على تحويل المتحف الإسطنبولي إلى مسجد وتحقيق حلمه.
عدا قيمتها الروحية، أكان للمسلمين أم للمسيحيين، لآيا صوفيا أهمية قصوى في تركيا ومدينتها «المتروبولية». إنّها الأيقونة التاريخية والمعمارية والتراثية الأشهر التي تُظهر أبهى معالم مدينة إسطنبول، وتعطي فكرة لأي ناظر إليها عن مدى عراقة وجبروت الإمبراطوريات التي مرّت على هذه المدينة.
يشبه تاريخ آيا صوفيا تاريخ الجماعات والقوى التي سيطرت على المدينة. فهي وإن كانت بناءً في نهاية الأمر، إلّا أنّها بناء غير جامد، ففيها حياة تتطوّر عبر الزمن. وللمفارقة، يغيّر البناء الحيّ من هويته بشكل يتلاءم دائماً مع هوية الحكام والجماعات التي سيطرت على إسطنبول وتركيا.
فيوم كانت القسطنطينية عاصمة مسيحيي المشرق، كانت آيا صوفيا كنيستها الأساسية والمقدّسة، ثم أزيلت صلبانها وتمّت تغطية أيقوناتها الدينية وزيّنت بالمنارات الإسلامية بعد دخول العثمانيين إليها عام 1453. لتعود وتصبح متحفاً تحت حكم علمانيي تركيا، ومن ثم تلبس هويتها الجديدة كمسجد، عام 2020، على عهد رجب طيب أردوغان، دون أن تقام فيها الطقوس الدينية نظراً لتفشي وباء كورونا في حينها.
لم يكن طوران وحده من حلم بآيا صوفيا وهويتها، بل سبقه إلى ذلك الأمبراطور البيزنطي جوستينيانوس الأول. بحلول العام 360 (ميلادي)، كانت المسيحية قد أخذت بالتوسّع على ضفاف المتوسط والمدن القريبة، فأراد الإمبراطور قسطنطين تشييد كنيسة ضخمة للدين الجديد، لتعزيز ولاء المؤمنين له، ولإستمرار حكمه دون قلاقل أو إضطرابات.
نجح الإمبراطور في تحقيق ما أراده، إلّا أّن العقود اللاحقة لم تشفع للأباطرة والملوك من غضب العامة، فأحرقت كنيسة آيا صوفيا لمرات عديدة. فما كان من الإمبراطور جوستينيانوس الأول سوى الأمر عام 532 (ميلادي) بإعادة بناء الكنيسة من الحجارة الصلبة بدل ترميمها. لاقى هذا الطرح رفضاً من العامة ورجال الدين، فما كان من الإمبراطور إلّا أن أقنعهم بضرورة تنفيذ أمره بسبب حلم راوده يظهر فيه أحد القديسين المسيحيين ممسكاً بطبق فضي، ويحمل عليه رسماً لكنيسة آيا صوفيا.
تحوّل حلم الإمبرطور إلى حقيقة بعد خمس سنوات من بدء العمل على بنائها، واعتُبرت آيا صوفيا الكنيسة الأعظم في زمانها، وتمثل بناءً حيّاً تتجلى فيه شفاعة الله بمؤمنيه، وبتذكير الأعداء والجيوش القادمة بعراقة القسطنطينية، وقيمتها الحضارية وقوتها الدائمة.
ظلت آيا صوفيا كنيسة طوال إحدى عشر قرناً، ثم تحوّلت إلى مسجد فمتحف على عهد مصطفى كمال «أتاتورك» (1923-1938). لم يكترث هذا الأخير للأحلام ولا للدين، كما لم يهتم بشفاعة الآلهة ولا بالأبنية الفارهة وعراقة المُدن، ولا حتى بدعوات المؤمنين عليه بأن يُصاب ببلاء إن عبث بهوية المسجد. جلّ ما أراده كان تثبيت حكمه ليستمر به، وتجنّب الأخطار الأجنبية القادمة نحوه ونحو بلاده. وعلى عكس طوران وجوستينيانوس الأول، فإنّ واقعية «أتاتورك» لا أحلامه كانت الدافع لتحويل المسجد إلى متحف عام 1934.
لقد شهدت ثلاثينيات القرن الماضي صعوداً سريعاً للقوة الإيطالية، وتزايداً لنفوذ روما بشكل كبير في منطقة البلقان الملاصقة لتركيا، فنشأ، على الأثر، تحالفاً بين بعض الدول البلقانية لمواجهة الصعود والنفوذ الإيطالي المستجد. أما تركيا، فأرادت أن تكون جزءًا من «حلف البلقان» الناشئ، لأنّه يشكّل حاجزاً طبيعياً، سياسياً، جغرافياً واستراتيجياً، أمام الطموحات الإيطالية بالتوسُّع. إلّا أّنّ أعضاء «حلف البلقان» المُشكّل من دول ذات أكثرية وهوية مسيحية أرثوذكسية، كاليونان ورومانيا وهنغاريا ويوغوسلافيا، قامت بالإشتراط على تركيا بحل مسألة آيا صوفيا قبل الترحيب بها عضواً في الحلف الإقليمي.
كان «أتاتورك» جدّ واقعياً، فأخذ قراره بتحويل المسجد إلى متحف إرضاءً لدول البلقان، وهكذا تمّ الترحيب به عضواً بالحلف. ليعود وينتهي هذا التجمّع الإقليمي عند بداية الحرب العالمية الأولى، على الرغم من نجاحه في تخفيف الإندفاع الإيطالي نحو البلقان قبلها.
بعض الأحلام تصنع العظمة، كذلك بعض الواقعية. من جوستينيانوس الأول إلى «أتاتورك» وصالح طوران، يبقى الحالم الأكبر باستعادة أمجاد الماضي وعظمة الإمبراطورية التركية مُلك لرجب طيب أردوغان، الحالم بإحياء الماضي في الزمن الحاضر. حلمٌ لن يُكتب له الكثير من النجاح، حتى ولو حوّل كل متاحف بلاده إلى مساجد.