قبل لبنان.. ماذا سيفعل البابا في تركيا؟

قبل لبنان.. ماذا سيفعل البابا في تركيا؟

  • ١٩ تشرين الثاني ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

زيارة البابا لتركيا صورة عن صراع البقاء بين التاريخ والواقع، بين الرمزية والحياة، بين الماضي المجيد والحاضر الهش.

 
قبل أن تتجه رحلته إلى لبنان، يحطّ البابا ليون الرابع عشر في تركيا، ليجد نفسه داخل متحف حيّ تتحدث جدرانه باسم «مجمع نيقيا» وتروي مجداً مضى وغاب من بين الناس. في تركيا اليوم، لا أجواء التحضيرات كبيرة، ولا ضجيج الصحافة كذلك، ولا حتى التدرّب على البروتوكولات يملأ المكان، كما هو الحال في بيروت. 

أول محطات البابا ستكون إسطنبول، القسطنطينية العظيمة التي تحوّل فيها قلب المسيحية إلى مساجد، والكنائس إلى صمت حجري. هناك سيزور البابا الجامع الأزرق، الشاهد على تاريخ إسلامي طويل وعريق، وسيقف أمام آيا صوفيا، الرمز الذي يحدد خطوط التاريخ بين الماضي المسيحي والحاضر الإسلامي، حيث كانت أكبر كنيسة في العالم لفترات طويلة، ومركزاً للكنيسة الأرثوذكسية قبل أن تتحول إلى مسجد، ثم متحف، ثم مسجد مرة أخرى في عام 2020. كل زاوية من آيا صوفيا تروي قصة صراع قديم، كل قبة وأعمدة تحكي عن حضارة كانت، عن إيمان يختبئ خلف جدرانها، عن جمهور مسيحي إختفى تقريباً من قلب تركيا.

اللقاء مع البطريرك الأرثوذكسي برثلوميوس الأول لن يكون مجرد مناسبة بروتوكولية، بل لحظة تاريخية ورمز حيّ للحوار بين كنيستين كبيرتين، بين إرثين يمتدان عبر قرون. البابا، الذي يمثل الكاثوليك غير المعترف بهم رسمياً في تركيا، سيجلس أمام برثلوميوس الأول، حاملاً إرث السلام والوحدة، بينما الأرثوذكس، الأقلية المتبقية، سيتكلمون معه عن تاريخ طويل من القيود والغياب. سيجلسان، ويتبادلان التحيات، ويخلقان صورة إعلامية، لكنها ستحمل رسالة أعمق، وهي أنّ الحوار بين الكنائس يحتاج إلى إرادة أكثر من الكلمات، إلى حضور أبعد من الرمزية، وإلى دعم حقيقي للمجتمع المسيحي الصغير الذي يكاد يختفي.

بعد إسطنبول، سيتوجه البابا إلى مدينة إزنيك (نيقيا)، المكان الذي صاغ أول مجمع مسكوني، ووضع حجر الأساس لعقيدة الثالوث المقدس. هناك، سيشارك البابا في مراسم الذكرى الـ 1700 للمجمع، في حضور ممثلين عن الكنائس المسيحية، كرمز للوحدة التاريخية. لكن المدينة نفسها شبه خالية من السكان المسيحيين، يحرسها التاريخ أكثر من البشر، والمساجد الحديثة والمتاحف يخفيان ما تبقى من روح المكان. ستكون الإحتفالات الرمزية أكثر حضوراً من المجتمع نفسه، وكأنّ المجد القديم أصبح إرثاً للذاكرة لا للحياة اليومية.

الزيارة لن تقتصر على الرمزية التاريخية، بل ستشمل لقاءات مع المجتمعات المسيحية المتفرقة في تركيا، بما في ذلك اليونانيون الأرثوذكس والأرمن والسريان. سيزور البابا كنيسة «مور إفرام» للسريان، التي فُتحت عام 2023، كأول كنيسة جديدة في تركيا منذ أكثر من مئة عام، لتصبح رسالة دعم واضحة للأقليات المسيحية، في بلد يعيش فيه الكاثوليك في ظلّ عدم الإعتراف القانوني،والأرثوذكس والسريان بوجود إجتماعي محدود، وسياسي معدوم. كل لقاء، كل كلمة، ستكون محاولة لإبقاء شعلة المجتمع المسيحي على قيد الحياة وسط الظلال الطويلة للماضي وسياسة الدولة الحديثة.

على الصعيد السياسي، سيلتقي البابا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ليبحث معه دور تركيا الإقليمي في المنطقة، وتعزيز السلام في الشرق الأوسط، وسُبل الوساطة في النزاعات الدولية، بما في ذلك الحرب الروسية - الأوكرانية. اللقاء سيحمل دلالة مزدوجة، البابا لن يكون زائراً دينياً فحسب، بل شخصية عالمية تتحدث عن السلام والإستقرار الإقليمي، بينما يجلس على مقربة منه من يحمل مفتاح الحضور المسيحي في تركيا المعاصرة.

لكن أخطر ما ستكشفه الزيارة هو هشاشة المجتمع المسيحي نفسه في تركيا. التاريخ وحده، والرمزية وحدها، لن تكفيا للحفاظ على وجود حيّ. نيقيا، آيا صوفيا، اللقاء مع الأرثوذكس، كل هذه الرموز ستكون لقاءات باردة إذا لم يصاحبها دعم حقيقي وإرادة سياسية قوية. كل صلاة مشتركة، وكل كلمة سلام، كل بكاء على الأطلال سيصبح شعلة قصيرة الأجل ما لم يصاحبها مشروع حقيقي قابل للحياة.

في النهاية، ستكون زيارة البابا لتركيا صورة عن صراع البقاء بين التاريخ والواقع، بين الرمزية والحياة، بين الماضي المجيد والحاضر الهش. هي محاولة لإعادة قراءة التراث المسيحي، لإطلاق حوار حقيقي بين الكنائس، ودعم مجتمع يكاد أن يختفي، بينما يعيد التأكيد على دور تركيا الإقليمي ومسؤوليتها تجاه السلام في المنطقة. وكما علّمت نيقيا وسقوط القسطنطينية والإبادة الأرمنية وغيرها من الأحداث التاريخية الخاصة بمسيحيي تركيا، لا أحد سيبقى محتفظاً بشيء ما لم يكن قادراً على الدفاع عنه بنفسه.