في كتاب «تاريخ الأزمنة» للدويهي تحقيق الأباتي بطرس فهد، وفي سياق الكلام عن المجمع في قنوبين سنة ١٥٥٧ يصف حال الطقس«… وفي هذه السنة جاء سيل عظيم حتى ان نهر قديشا ما ترك جسراً عامر من الجرد الى البحر. وفي الثامن عشر من شهر آذار جاء تلج وريح حتى أن في الوادي بلغ الثلج الى علو قامة واحترق توت القز والكرم مع ساير الفواكي».
وفي سياق آخر يذكر سنة وفاة جبرائيل إبن القلاعي وسيرته « سنة تلاتة وعشرين وتسعماية للهجرة التي بدؤها في شهر سباط من شهور سنة أنيو مسيحية (أي ١٥١٦) انتقل بالوفاة الى رحمة الله الاسقف جبرائيل ابن القلاعي من لحفد… حتى ان هو وحده سند بدرعيه (أي ذراعيه) ملته..». وفي سياق تأريخ وفاة السلطان سليم وردت اللغة كالتالي: « سنة ستة وعشرين وتسعماية للهجرة التي توافق سنة أنيط مسيحية (أي ١٥١٩م) كانت وفاة السلطان سليمان. وفيها زحف الجراد في بلاد الشام واكل كل الفاكهة والبذور، وصار الغلا العظيم حتى إن شنبل القمح بلغ الماية دينار في بلاد طرابلس وفي بيروت الى الماية وخمسين… فوصل البغل الى خمسة آلاف وازيد والراس البقر الى ثلاثة آلاف والطاير الدجاج الى… وجميع الاشياء زادت عن باقي العوايد..». وفي سياقات أخرى بدون أن نذكر الحدث كون الكلام يدور حول اللغة، على سبيل المثال «يخرج كل الشعب ويمسك عليه كل المعابير (أي مفارق الطرق لمواجهة الجراد)..وكانت صايرة عالناس عظايم وحصاير عظيمة ...»
قد يتساءل المرء عن تجذّر الأسماء السريانية بين موارنة جبل لبنان عموماً وفي أسماء القرى والبلدات اللبنانية والطقوس الدينية، أو الانشاء اللغوي في المخطوطات الكنسية أو غيرها الحائر بين العامية والفصحى والذي يفتقد الى السلاسة اللغوية الفصحى. لا بدّ من العودة الى توليفة تاريخية في هذا الاطار، سنورد بالحرف قراءة الباحث د. خليل حاوي في مبحثه لهذه المسألة «جبران خليل جبران، إطاره الحضاري، شخصيته، وآثاره»، دار العلم للملايين، الطبعة الاولى،بيروت،١٩٨٢
«بعد الفتح العربي لمدن الساحل اللبناني بين سنتي ٦٣٥- ٦٤٠، خضع اللبنانيون النصارى التي كانت السريانية لغة كنيستهم، الى إعادة تعريب فصيح لكتبهم الدينية، مما ساعد على الانكباب على دراسة اللغة العربية والشروع في الترجمة اليها من السريانية ، والتأليف في علومها وآدابها.
ومن المعروف أنّ النصارى العرب أخذوا يلجؤون الى الجبل اللبناني نتيجة الاضطهاد الذي وقع على الاقليات الدينية خاصة منذ السيطرة العثمانية على الوطن العربي . وقد كانت بعض القبائل العربية الاسلامية إستقرت في لبنان ،وأسست سلالة لحكام إقطاعيين سيطروا على مناطق عديدة من الجبل ،ومن هؤلاء المعنيون الذين تنصروا في ما بعد. وقد تمتع الشيخ ناصيف اليازجي (١٨٠٠- ١٨٧١) ، وسواه من رواد البعث الادبي في القرن التاسع عشر ، بعطف الامير بشير الشهابي وعاشوا في رعايته. كما كان لذلك النزاع القبلي الموروث الذي قسم اللبنانيين قيسيين ويمانيين، اليد الطولى في قضية التعريب . وثمة عامل زاد في قيمة العربية وهو كونها لغة الفئة الحاكمة. وقد منحها إمتيازاً لم يكن للسريانية.
ومن الصعب أن نؤرخ أولى محاولات النصارى اللبنانيين في التعبير العربي الادبي ، ولكن من المؤكد أنّ شيئاً من ذلك لم يتم قبل القرن الخامس عشر ، وقد كان نتاجهم الادبي حتى في ذلك العصر ،لا يزال بدائياً ركيكاً ، ولا يخلو من أخطاء متوقعة في مرحلة إنتقالية . فكلام النطق والعبارة كانا حائرين بين العربية والفصحى، إذ كانا مزيجين منهما معاً ، وقد كانت تلك الاخطاء منتشرة حتى في إنشاء أفضل كاتب في ذلك العصر ،نعني الشاعر والكاتب الديني جبرائيل القلاعي (ت .١٥١٦)، وقد تخرج من المعهد الماروني روما.
وفي أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر، حاولت أجيال من خريجي المعهد الماروني في روما، أن تكتب بالعربية الفصحى بدلاً من العربية العامية التي كتب بها سابقوهم . غير أنّ أحداً قبل المطران جرمانوس فرحات (١٦٧٠- ١٧٣٢) لم يتمكن من بلوغ التعبير النقي. ويتبين من آثارهم التي توصلنا الى معرفتها ، كترجمة التوراة المنسوبة الى إبراهيم الحاقلاني (١٦٦٤) ويوحنا نمروني الحصروني وقد ظهرت في روما عام ١٦٧١، أنّ العبارة كانت مضطربة قلما تجري في سياق الفصحى، بل تغلب عليها صبغة العامية. ويصدق القول نفسه على الاسلوب الذي صاغ به البطريرك إسطفان الدويهي تاريخه (١٦٣٠- ١٧٠٤).
مع ذلك يبقى الحدث الهام ،هو أنّه في القرن السابع عشر ، حين لم تكن العربية الفصحى، ولا الثقافة الغربية ضربت جذوراً عميقة في تربة لبنان ، كانت التعابير التلقائية الاولى النابعة من الروح اللبنانية قد وجدت طريقها الى اللغة الادبية .في هذه التعابير نقدر على تلمس العناصر التي كوّنت ، من بعد، الميزات الجوهرية في روح الادب اللبناني، وهي تعابير طقسية إبتهالية تنزع الى الإيحاء بالصورة والايقاع، وحبّ لجمال الطبيعة في الجبل يكاد أن يكون صوفياً .ولنا أن نعتبر جميع هذا واحداً، نظراً لأنّ جمال الجبل، كان أيضاً موضوع نشيد الأنبياء القدامى.
أما في ما يختص بالعبارة والاسلوب ، فإنّ كتاب النصارى، بإجتهادهم لتحطيم السور القائم بين الفصحى والعامية، قد عبدوا الطريق لخلق أسلوب حيّ هو السهل الممتنع المرن الذي نهجه الكتاب اللبنانيون في القرنين التاسع عشر والعشرين. فهذا الأسلوب الأخير الجدير بالتقدير لصحة عبارته ولمعانيه الراقية والذوق الجمالي، والفكر المعبّر ..»
بذلك طهروا اللغة بعد عصور من الإنحطاط من الجمود وجعلوها مواكبة للعصر.
«ولسوف نرى فيما بعد ، كيف قام هذا التقليد النصراني في الادب بإنجاز عمل قيّم ،هو ترجمة الكتاب المقدس الانجيلية في سنة ١٨٦٥،وكيف إستطاع جبران أن يستمد منها أسلوباً أدبياً في الانشاء العربي لم يسبق إليه».