إبرة فلسطين وكومة القشّ
إبرة فلسطين وكومة القشّ
بين حقد الإسرائيليّ وهذيان الإيرانيّ ووقاحة الأميركيّ ولا مبالاة الروسيّ وبرودة الأوروبيّ وضياع العربيّ، أمسى رأي الفلسطينيّين إبرةً في كومة قشّ.
تتحدّث الحصيلة الرسميّة عن تخطّي عدّاد الموت، في غزّة، عتبة الأربعين ألف شهيدٍ فلسطينيّ. للحصائل الرسميّة، في التجربة البشريّة، تاريخٌ طويل في التزمّت وتغييب الدقّة. يعرف الجميع، في أيّ صراعٍ دمويّ، أنّ أرقام الأبرياء الضحايا المُذاعة هي مَذّاعةٌ وشديدة البخل. ويعرفون، أيضًا، أنّ تقليص وطأة بقعة الدماء الرسميّة أمام العدسات لا يعيد الحياة إلى أهل الفوارق بين الرقمين: الرسميّ والحقيقيّ. لعبة الفوارق تلك، في أرقام القتلى، لا يتسلّى بها غير القتَلة. فالحصيلة الرسميّة لكارثة تشرنوبيل ما زالت، حتّى يومنا هذا، مصرّةٌ على إحدى وثلاثين ضحيّة فقط، وهي، بعد نيّفٍ وثلاثة عقود، مستمّرةٌ في حصد ضحايا لها من بين أحفاد ضحاياها الأوائل.
"الأحمر الشفّاف الفلسطينيّ"
تنهمك مراكز الدراسات في حسابات الخسائر التي تكبّدتها حركة "حماس" منذ الطوفان التشرينيّ. ثلث قدراتها القتاليّة يقولون. جيش العدوّ يفاخر في تدميره النسبة الأكبر من تلك الكوادر والذخائر الحمساويّة. الحركة تعلن، مرارًا، عن إعادة ترميم نفسها، وتحصر خسائرها في ما يقارب نصف ما تتحدّث عنه الجهة المقابلة. كلّ هذا طبيعيّ ومفهوم في الصراعات المماثلة. لكنّ ما لا يقبله ضميرٌ أو عقلٌ أو ذرّة إنسانيّة هو غياب أربعين ألف بريءٍ غزّاويّ، نصفهم أطفال ونساء، عن بورصة الخسارة والربح. لا الإسرائيليّ وداعموه أدخلوهم في ثلثهم ولا الممانع ورعاته اهتزّوا لأحمر دمائهم. في المسالخ، ليس الأحمر لافتًا للإهتمام. هو شرٌّ مألوف للسلّاخ وشفّافٌ في عينيه. هكذا هي دماء الفلسطينيّين.
"ضرب الحديد والنار… والمواعيد"
متى تردّ إيران على مهانة ترابها؟ متى يردّ الحزب على استهداف قادته؟ هل يتصرّف الحشد والحوثيّون والفصائل؟ أسئلةٌ تدور مع دوران الأرض. واجب الردّ على اصطياد الرجل الأول في الحركة والثاني في الحزب يُبحثُ في كلّ المختبرات السياسيّة. تحاليل ودراسات وأقاويل وتوقّعات من كلّ ناحية. منهم من يضرب الحديد والنار، ومنهم من يضرب مواعيد للردّ. لم يسأل أيٌّ من عباقرة مسطّح الذبح هذا عن الواجب الأخلاقيّ للردّ عن رقاب أربعين ألف مدنيّ. فمن ليس على هرم التراتبيّة العسكريّة والسياسيّة لا تدخل سلامته في التدقيق الحسابيّ للمكاسب والخسائر.
"تحت الأرض وفوقها"
في المأساة الفلسطينيّة، وجد الجميع فرصة إدلاء دلوه في الكلام إلّا صاحب القضيّة. مقترحات ومبادرات وحلولٌ وسرديّات. وبين حقد الإسرائيليّ وهذيان الإيرانيّ ووقاحة الأميركيّ ولا مبالاة الروسيّ وبرودة الأوروبيّ وضياع العربيّ، أمسى رأي الفلسطينيّين إبرةً في كومة قشّ. إبرةٌ إيجادها فائق الصعوبة والباحثون فائقو البلادة. وفيما إبرة الوقت، في فلسطين، تدقّ بطيئةً نحو نهاية مأساتها، يستمر، ببرودة الدمّ نفسها، الحلفاء والمحور في لعبة التلطّخ بالدماء البريئة، مع فارقٍ وحيد بينهما: مدنيّون تحت الأرض في الملاجئ وعسكرهم فوق الأرض في الميدان، وفي المقابل، الفلسطينيّون خارج الأنفاق وفوق الأرض المحروقة.. والمقاتلون تحتها.