شهداء من بشَرّي... وغزّة
شهداء من بشَرّي... وغزّة
تنبيه: إنّ أحداث هذا النص هي من نسج الحقيقة. أيّ تَشابُه في الأسماء والشخصيّات والأحداث هو محض صدفة مقصودة.
يحدّد معجم »مريام ويبستر« العالميّ تعبير »الشهيد» بالشخص الذي يتكبّد معاناةً هائلة، أو يدفع حياته، في سبيل معتقدٍ أو قضيّة. فالشهداء، في عالم ما بعد الزيارة الأرضيّة، لا تفصل بينهم سياسةٌ أو جنسيّةٌ أو معتقدٌ أو قضيّة. كلّ أشكال الفصل تُلفظ مع الأنفاس الأخيرة. هناك، حيث تنتهي صلاحيّة كلّ معاجم السياسة، كلّ القضايا محقّةٌ وكلّ الشهداء قدّيسون. لا عرين للموارنة هناك، ولا أرض جهادٍ للمقاومات الإسلاميّة، بل عرينٌ وأرض جهاد للإنسانيّة والعدالة.
»لقاء الشهيدين«
في العالم بعد الأرضيّ، وفي حديقةٍ زاهية مخصّصةٍ لأبطال الإنقاذ، شاءت العرضيّة أن يلتقي الشهيدان عامر الغزّاويّ وجورج رحمة البشرّاويّ. الإثنان استشهدا، في سبيل واجبهما، في اليوم نفسه، قبل نيّفٍ وأسبوع. لقاءٌ لم تترك سياسات الكراهية أيّ فرصةٍ لحصول مثيله منذ مئة عام.
- »العوافي«، بادر جورج. فهو، في حياته والممات، لا يسبقه في إلقاء التحية أحد. فأجاب الغزّاويّ: العواف يا غانمين.
- أش صار معك؟ سأل البشرّاويّ.
- انهار سقفٌ على جسدي أثناء محاولتي سحب أختي من تحت حقد غارةٍ على خان يونس، فاستشهدنا سويًّا. قال الغزّاويّ.
- أنت فلسطينيّ؟ سأل جورج بحشريّة.
- فلسطينيّ…
- »أهلا بربّك«، قاطعه البشرّاويّ، بحماسة. أكنتم في ميدان القتال؟
- لا ناقة لنا، في السلاح والقتال، ولا جمل. نحن عالقون بين إهمال أهل الأرض وحقد مغتصبيها. وأنت، أخبرني كيف وصلت إلى هنا.
- أنا أيضًا أنقذت شابًّا سقط حائطٌ عليه، فلم تمهلني حجارته فرصة النجاة.
- أهو قريبك؟
- لا. الناجي من سوريا.
- من سوريا؟! أسمع أنّكم والسوريّين على غير وئام.
- صحيح. لكن يومها، لم يكن من الساسة، في صفوف فرق الإنقاذ، أحد. الإنقاذ ليس حرفة ساستنا. فكُنّا على سجيّتنا.
- في أيّ منطقة جنوبيّة استشهدت؟
- لم أسقط في الجنوب. بل في موطن قلبي. في بشرّي، شمال لبنان.
- ومن الذي يقصف بشرّي؟ قال الغزّاوي باستغرابٍ شديد.
- الإهمال، يا صديقي.
»حديقة العائلات«
- في حديقةِ ما بعد الزيارة الأرضيّة، تَغلِب اللهجة الفلسطينيّة، لا سيّما بعد السابع من تشرين الفائت، على تمتمة العائلات الوافدة. إذ نادرًا ما يحصد القدر عائلةً بأكملها، كما هو حاصلٌ في غزّة. لحظَت »إيمان« الفلسطينيّة لهجةً غير مألوفة. عائلةٌ وافدة من خمسة أفراد: جوزيف طوق وزوجته وأولادهما الثلاثة. ليس التنبّه إلى اللهجة البشرّاويّة صعبًا.
- ليست لهجتكم فلسطينيّة. قالت إيمان لجوزيف البشرّاويّ، وحولها أطفالها الخمسة. ما الذي جاء بكم إلى هذا القطاع المشتعل، لتلقوا مصيرنا هذا؟
- لم نمُت في غزّة يا سيّدتي، فنحن نادرًا ما تركنا أمان ضيعتنا. قال جوزيف.
- ظننت أنّ موت العائلات هو قدرنا وحدنا نحن الفلسطينيّين.
- أنا، أيضًا، أخطأت الظنّ. لطالما رأيت في بشرّي المكان الأكثر أمانًا لعائلتي، لكنّ«كزدورة« معا، ذات مساءٍ صيفيّ، شاءت حدّة المنعطف وعمق الحفرة وغياب الإنارة والحماية ومعايير السلامة العامة أن تكون الأخيرة لنا هناك.
- ليس في يوميّات أطفالنا، نحن الفلسطينيّين، »كزدورة» أيّ نشاطٍ عندنا قد يكون الأخير. لا سلامة عامّة عندنا ولا خاصّة. لا مقوّمات لحياتنا ولا ملاجئ لأطفالنا. سقط زوجي، قبل شهرٍ، لنقصٍ في العلاج بعد إصابة. ومنذ أيّام، ألقى حاقدٌ غبيّ قنبلةً ذكيّة فوق منزلنا، فشطب منزلنا وعائلتنا عن سجلّات الحياة. في فلسطين، ينجو فقط من يرفضه الموت، لا من تبتسم له الحياة.
- منزلنا، في بشرّي، لم يُصب بأيّ ضرر. ما قيمة الدار إن بقي بابها مقفلًا. ليست الدار الخاوية والمقفلة ألطف، على أهلها، من المهدّمة.
- مع الحديث الهادئ والطويل، بين الأب البشرّاويّ والأم الغزاويّة، اغتنم الأطفال الثمانية، الذين لا يفقهون مفاصل السياسة والحدود والصراعات، فرصة اللعب، سويًّا، في الحديقة. التفت إيمان للتأكّد من سلامة أولادها. حتّى في سلامة المقلب الآخر من الحياة، لا يغيب ناظر الأم عن أمان أطفالها.
- يبدو أنّ أطفالنا على خير وفاق. يُحكى أنّ التعاطف معنا، نحن الفلسطنيّين، عندكم شديد القحل. هناك من يمرحون على دويّ المفرقعات ويرقصون، فيما القنابل تسابق، في سمائنا، المطر. أخبرني أكثر يا صديقي اللبنانيّ.
- هذا كلام الساسة. المتعاطفون منهم واللا مبالون منافقون. هناك، يا سيّدتي أيضًا، من رقص في عزّ جنازتنا، ولم يرفّ له جفن. كذِب الساسة، في كلّ مكان، ولو صدقوا. لكنّنا، في هذه البقعة السوداء من العالم، نصدّقهم. نحن اللبنانيّين، قيل لنا إنّكم طامعون بأرضنا وطنًا بديلًا، وأنتم أكثر من يعرف قسوة خسارة الأرض. أليس ظلم ذوي القُربى أشدّ مضاضة؟
- هل، في هذا العالم، من يرضى ببديلٍ عن أرضه؟ تلك هي، أيضًا، فتاوى وصفقات ساستنا وقادتنا. وهؤلاء ليسوا أقلّ نفاقًا، ممّن عندكم.
»جوسلين وسوريا وملامح الموناليزا«
في هذه اللحظة من اللقاء بين العائلتين الشهيدتين، ارتسمت على وجه جوسلين، زوجة جوزيف طوق البشرّاوي، ملامح بين البسمة والأسى على شاكلة تلك السيّدة في لوحة الموناليزا، ثم قالت، بهدوئها المعتاد: تتحدّثون عن فلسطين ولبنان، فأشعر أنّكم تناقشون مآسينا نحن في سوريا. أنا، أيضًا، ظننت أنّ أرض الأرز أكثر أمانًا من أرض الياسمين. ليس الأمان والهناء مِن حلفائنا في هذه البقعة السوداء كما وصفتموها. فمتى، نحن شعوب هذه البلدان المهزومة، سنلفظ نفاق الساسة من بين صفوفنا ونعلن أنّنا نريد الحياة؟
»لقاء الشهيدين«
في العالم بعد الأرضيّ، وفي حديقةٍ زاهية مخصّصةٍ لأبطال الإنقاذ، شاءت العرضيّة أن يلتقي الشهيدان عامر الغزّاويّ وجورج رحمة البشرّاويّ. الإثنان استشهدا، في سبيل واجبهما، في اليوم نفسه، قبل نيّفٍ وأسبوع. لقاءٌ لم تترك سياسات الكراهية أيّ فرصةٍ لحصول مثيله منذ مئة عام.
- »العوافي«، بادر جورج. فهو، في حياته والممات، لا يسبقه في إلقاء التحية أحد. فأجاب الغزّاويّ: العواف يا غانمين.
- أش صار معك؟ سأل البشرّاويّ.
- انهار سقفٌ على جسدي أثناء محاولتي سحب أختي من تحت حقد غارةٍ على خان يونس، فاستشهدنا سويًّا. قال الغزّاويّ.
- أنت فلسطينيّ؟ سأل جورج بحشريّة.
- فلسطينيّ…
- »أهلا بربّك«، قاطعه البشرّاويّ، بحماسة. أكنتم في ميدان القتال؟
- لا ناقة لنا، في السلاح والقتال، ولا جمل. نحن عالقون بين إهمال أهل الأرض وحقد مغتصبيها. وأنت، أخبرني كيف وصلت إلى هنا.
- أنا أيضًا أنقذت شابًّا سقط حائطٌ عليه، فلم تمهلني حجارته فرصة النجاة.
- أهو قريبك؟
- لا. الناجي من سوريا.
- من سوريا؟! أسمع أنّكم والسوريّين على غير وئام.
- صحيح. لكن يومها، لم يكن من الساسة، في صفوف فرق الإنقاذ، أحد. الإنقاذ ليس حرفة ساستنا. فكُنّا على سجيّتنا.
- في أيّ منطقة جنوبيّة استشهدت؟
- لم أسقط في الجنوب. بل في موطن قلبي. في بشرّي، شمال لبنان.
- ومن الذي يقصف بشرّي؟ قال الغزّاوي باستغرابٍ شديد.
- الإهمال، يا صديقي.
»حديقة العائلات«
- في حديقةِ ما بعد الزيارة الأرضيّة، تَغلِب اللهجة الفلسطينيّة، لا سيّما بعد السابع من تشرين الفائت، على تمتمة العائلات الوافدة. إذ نادرًا ما يحصد القدر عائلةً بأكملها، كما هو حاصلٌ في غزّة. لحظَت »إيمان« الفلسطينيّة لهجةً غير مألوفة. عائلةٌ وافدة من خمسة أفراد: جوزيف طوق وزوجته وأولادهما الثلاثة. ليس التنبّه إلى اللهجة البشرّاويّة صعبًا.
- ليست لهجتكم فلسطينيّة. قالت إيمان لجوزيف البشرّاويّ، وحولها أطفالها الخمسة. ما الذي جاء بكم إلى هذا القطاع المشتعل، لتلقوا مصيرنا هذا؟
- لم نمُت في غزّة يا سيّدتي، فنحن نادرًا ما تركنا أمان ضيعتنا. قال جوزيف.
- ظننت أنّ موت العائلات هو قدرنا وحدنا نحن الفلسطينيّين.
- أنا، أيضًا، أخطأت الظنّ. لطالما رأيت في بشرّي المكان الأكثر أمانًا لعائلتي، لكنّ«كزدورة« معا، ذات مساءٍ صيفيّ، شاءت حدّة المنعطف وعمق الحفرة وغياب الإنارة والحماية ومعايير السلامة العامة أن تكون الأخيرة لنا هناك.
- ليس في يوميّات أطفالنا، نحن الفلسطينيّين، »كزدورة» أيّ نشاطٍ عندنا قد يكون الأخير. لا سلامة عامّة عندنا ولا خاصّة. لا مقوّمات لحياتنا ولا ملاجئ لأطفالنا. سقط زوجي، قبل شهرٍ، لنقصٍ في العلاج بعد إصابة. ومنذ أيّام، ألقى حاقدٌ غبيّ قنبلةً ذكيّة فوق منزلنا، فشطب منزلنا وعائلتنا عن سجلّات الحياة. في فلسطين، ينجو فقط من يرفضه الموت، لا من تبتسم له الحياة.
- منزلنا، في بشرّي، لم يُصب بأيّ ضرر. ما قيمة الدار إن بقي بابها مقفلًا. ليست الدار الخاوية والمقفلة ألطف، على أهلها، من المهدّمة.
- مع الحديث الهادئ والطويل، بين الأب البشرّاويّ والأم الغزاويّة، اغتنم الأطفال الثمانية، الذين لا يفقهون مفاصل السياسة والحدود والصراعات، فرصة اللعب، سويًّا، في الحديقة. التفت إيمان للتأكّد من سلامة أولادها. حتّى في سلامة المقلب الآخر من الحياة، لا يغيب ناظر الأم عن أمان أطفالها.
- يبدو أنّ أطفالنا على خير وفاق. يُحكى أنّ التعاطف معنا، نحن الفلسطنيّين، عندكم شديد القحل. هناك من يمرحون على دويّ المفرقعات ويرقصون، فيما القنابل تسابق، في سمائنا، المطر. أخبرني أكثر يا صديقي اللبنانيّ.
- هذا كلام الساسة. المتعاطفون منهم واللا مبالون منافقون. هناك، يا سيّدتي أيضًا، من رقص في عزّ جنازتنا، ولم يرفّ له جفن. كذِب الساسة، في كلّ مكان، ولو صدقوا. لكنّنا، في هذه البقعة السوداء من العالم، نصدّقهم. نحن اللبنانيّين، قيل لنا إنّكم طامعون بأرضنا وطنًا بديلًا، وأنتم أكثر من يعرف قسوة خسارة الأرض. أليس ظلم ذوي القُربى أشدّ مضاضة؟
- هل، في هذا العالم، من يرضى ببديلٍ عن أرضه؟ تلك هي، أيضًا، فتاوى وصفقات ساستنا وقادتنا. وهؤلاء ليسوا أقلّ نفاقًا، ممّن عندكم.
»جوسلين وسوريا وملامح الموناليزا«
في هذه اللحظة من اللقاء بين العائلتين الشهيدتين، ارتسمت على وجه جوسلين، زوجة جوزيف طوق البشرّاوي، ملامح بين البسمة والأسى على شاكلة تلك السيّدة في لوحة الموناليزا، ثم قالت، بهدوئها المعتاد: تتحدّثون عن فلسطين ولبنان، فأشعر أنّكم تناقشون مآسينا نحن في سوريا. أنا، أيضًا، ظننت أنّ أرض الأرز أكثر أمانًا من أرض الياسمين. ليس الأمان والهناء مِن حلفائنا في هذه البقعة السوداء كما وصفتموها. فمتى، نحن شعوب هذه البلدان المهزومة، سنلفظ نفاق الساسة من بين صفوفنا ونعلن أنّنا نريد الحياة؟