لبنان.. حيث لا تنتهي الحرب
لبنان.. حيث لا تنتهي الحرب
لو كان الشاعر اليوناني هوميروس حياً بيننا اليوم، لكان أكد مجدداً على مقولته التالية: «يعتري الناس التعب من النوم، ومن الحب، ومن الرقص... قبل أن يعتريهم التعب من الحرب». والحرب، في قاموس اللبنانيين، قد تكون خارجية مع إسرائيل أو غيرها، أو تكون، كما غالباً، داخلية، عبر التناطح العنفي بين الجماعات اللبنانية.
لم تملّ إسرائيل من الحرب يوماً، ولا ملّ معظم اللبنانيين كذلك. دع جانباً تلك الادعاءات المغلوطة والخبيثة عن حبنا للسلام والأمان، كما تلك الدعايات المنتشرة في بعض طرقات مدننا والقائلة «لبنان لا يريد الحرب». معظمنا يريد الحرب، «حزب الله» وحلفاؤه في الدرجة الأولى، ومن ثم أخصامه الفرحون بضعفه الحالي وقلة حيلته.
وإن كان معظم البشر يخشون الحرب خوفاً من الموت أولاً، وكي لا يخسروا نمط حياتهم القائم ثانياً. إلا أنّنا، كلبنانيين، نبدو مختلفين بعض الشيء عن بقية شعوب الأرض. نحن نعيش كالقبائل البدائية عندما يتعلق الأمر بالموت، فنرى تبجيلاً وتقديساً لمن يفنى، تعظيماً لأثر فنائه، ووعداً باللحاق به. خذ أمهات بعض من سقطوا في تفجير أجهزة «البيجر» والأجهزة اللاسلكية الخاصة بعناصر «حزب الله» المنتشرة في كل مكان، ودعواتهنّ لتقديم المزيد من الشهداء.. والسير في القافلة حتى ظهور «صاحب الزمان».
ونحن، كشعب، تآلفنا مع الحرب وظروفها. فحتى في أحلك الأيام القاسية، كانت المقاهي والملاهي والمنتجعات تعج بالناس، وهو الحال اليوم. لا نكترث كثيراً لمغامرات «حزب الله» جنوب لبنان، ولا لإسناد جبهة غزة حقيقة. معظمنا يريد احتساء كأسه المفضّل، ومد طاولات «النيّة» والمشاوي يوم الأحد، والعمل والرقص والفرح. ليس الأمر معيباً ولا جديداً، فيما عدم الاكتراث قد يكون داخل الطائفة الواحدة. يروي بول العنداري، في كتابه «الجبل حقيقة لا ترحم» عن مغامرته الخطرة التي حلّت به وبأبناء جلدته في الجبل عام 1983، وتهجير المسيحيين الكارثي منه. كما يصف مشهد العودة إلى جونيه بعد أيام عجاف خسر فيها رفاقه وخسر المسيحيون الجبل، ليرى مشهد الناس في منتجعات جونيه البحرية يتسلون ويعيشون حياتهم كأنّ شيئاً لم يكن. من لا يتعاطف البتة مع أبناء جلده، لن يتعاطف يوماً مع كل آخر، والأمر يصح على جميع الطوائف.
هذا هو مجتمعنا يا صاح. من يظنه شيئاً مختلفاً، هو لا يعرف اللبنانيين البتة. تعاطفنا ظرفي، ومواقفنا اعتباطية، ونعيش كل يوم بيومه، نرى في تهلكة الآخرين فرصة، وفي قوتهم خطر. معظم اللبنانيين ينتظرون سقوط «حزب الله» في الحرب القائمة الآن، وجلّ «حزب الله» ينتظر نهاية الحرب ليؤدبهم ويعيد استحكامه بمصائر اللبنانيين. قد يظهر بعض الصادقين من هنا وهناك، من هؤلاء الذين لا يقيمون لعمق الخلافات الطائفية والسياسية والعقائدية أي ميزان، ويكون تضامنهم حقيقياً وصادقاً، لكن هؤلاء قلة.
وتاريخ لبنان هو تاريخ الحرب، قول يمكن تعميمه من قول هيغل: «تاريخ البشرية هو تاريخ الحرب»، أو من قول إبن خلدون: «عبر التاريخ ظلت الحرب ظاهرة بشرية ثابتة اجتماعياً». لا شيء يلفت الانتباه في تاريخ لبنان أصلاً غير الحرب، وطبعاً ليس المقصود تلك الحرب الأهلية الأخيرة (1975-1990) البسيطة في تفاصيلها وأعداد ضحاياها، بالمقارنة مع ما سبقها. من يعرف التاريخ اللبناني يعرف أنّ الحرب واللبناني صنوان لا يفترقان، فالمذابح والحروب والإبادات جزء حيّ من تاريخنا، وليست «ثورة المنيطرة» عام 759 ميلادي، ولا «حرب الجبل» عام 1860 سوى نزهات بسيطة في ثقافة الحرب عند اللبناني.
واللافت في القوى الدولية التي تتعاطى في الشأن اللبناني أنّها لا تعرف لبنان جيداً، أو ربما لا تعرفه البتة. تثير تصريحات الجهات الأوروبية بعض الضحك والسخرية، والكثير من الملل. يُطلقون دعوات للهدوء والتروي، وتصريحات عامة أخرى حول مخاوفهم وقلقهم من الحرب بين «حزب الله» وإسرائيل، كما بين اللبنانيين أنفسهم. هؤلاء لا يفهمون لبنان في العمق، بل يظنونه كأي بلد آخر، تجوز عليه التعابير المنمقة والعمومية التي تجوز على دول وشعوب أخرى. يصح في هؤلاء ما كتبه يوماً المؤرخ الفرنسي هنري لورنس: «إذا فهمت شيئاً في لبنان، فذلك لأنّه تم شرحه لك بشكل سيئ».
وإن كانت الحرب في لبنان تبدو كجزء من هوية جماعية مغروسة في وعي الناس، إلا أنّ هذا ليس محض صدفة أو مصادفة تاريخية. فالحرب، بمعناها العميق، هي أكثر من مجرد صراع مسلح بين الأطراف، إنما انعكاس لطبيعة تكوينية، ولتركيبة اجتماعية مشوّهة تسعى لتصفية حساباتها عبر الدماء. لن يكون مفاجئاً أن نرى في حرب لبنان القادمة، الآتية لا محالة، مثالاً صارخاً على هذا الواقع. فالأطراف الأساسيون فيها لن يكونوا مجرّد أعداء سياسيين، بل إنّهم ممثلون لجماعات دينية واجتماعية وثقافية متناقضة في كل شيء تقريباً، يتقاتلون ليس على النفوذ في الميدان وحسب، بل على الذاكرة وهوية البلاد وثقافتها على السواء.
ومع ذلك، ثمة جانب آخر يجب التوقف عنده: اللبنانيون، في نهاية المطاف، يريدون الحياة. هذا السعي الحثيث للعيش يتجلى بوضوح في أبسط تفاصيل حياتهم اليومية، في حبهم للترفيه والمناسبات الاجتماعية، في أعراسهم، وأعيادهم التي لا تنتهي. إلا أنّ الحرب قريبة في مطلق الأحوال، مألوفة ومثيرة، وكأنّها تزيد الحياة التي نحبّها متعة، وإن كانت للمُتع نهايات مؤلمة.
في قلب هذا المشهد الذي يعجّ بالتناقضات، ينبثق السؤال الأكثر إلحاحاً: هل نحن، كشعب، قادرون على الخروج من هذه الدوامة الفارغة؟ هل يمكن أن يتغيّر واقع لبنان، وأن نبتعد عن معادلة الحرب والسلام الهشّ التي نعيشها منذ قرون؟ على الأرجح لا. ما هو ثابت في التاريخ لن يتغيّر اليوم.