في حضرة الأرز والليمون.. طوائف داخل طائفة

في حضرة الأرز والليمون.. طوائف داخل طائفة

  • ١٦ حزيران ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

إنّ الجماعة المسيحية ليست جماعة، بل جماعات. بشري المقاوِمة، الكورة التنويرية، البترون المزدوجة، جبيل العملية، المتن الحزبي، جزين الراكدة، زحلة المتميّزة، بيروت الضائعة… كل واحدة تشبه نفسها أكثر مما تشبه أختها. المسيحيون ليسوا طائفة واحدة، بل طوائف داخل الطائفة، يوحدهم فقط خوف مشترك: من الإختفاء، من الإنكسار، من المجهول.


من عند القرنة السوداء، حيث يصعد الضباب ليلامس حدود السماء، وتتهيّأ الجبال لتخاطب الأزمنة، تبدأ الرحلة. هناك، لا تسمح لك الأرض أن تكون عابراً بلا ذاكرة، فيما الأرز يتربّع على عرش الجبل في صمت مهيب، كأنّه راهب يُصلي لوطن غائب.

«قرنة الشهداء» بحسب إسمها الأصلي، ليست مجرد أعلى نقطة في الشرق، بل هي أعلى مرآة يرى فيها الموارنة أنفسهم. فمنذ أن هبطوا من وادي قنوبين، وهم يصعدون في المعنى ويهبطون في السياسة. يتنفسون الحرية ويتخاصمون حول من يمثلها. في قمم الأرز، تلمح جذور قومية دينية تأسست على الخوف، على الإنعزال، على ذاكرة المجازر والتهميش. ومع ذلك، لا تزال تلك القمم تحمل في صمتها كبرياء يرفض أن يندثر.

تنحدر تدريجاً نحو بشري وقراها، فتدخل في سردية أخرى عن الهوية. بشري، بوجهها الصخري ولغتها القاطعة، هي أكثر من بلدة. هي قلعة نفسية تشعر فيها بأنّ الأرض نفسها لها رأي في السياسة. كل حجر فيها يحفظ أسماء شهداء، وكل بيت فيها يهمس بحكايات عن نفي وتاريخ ونبوءة مارونية لم تكتمل. لكن رغم الأرزة المزروعة بين الصخور البيضاء وفي القلوب، يظل أهلها يحرسون أبواب هويتهم من أقرب إخوتهم حتى، يخافون الذوبان في بحر مسيحي أوسع، ويصرّون على خصوصية لا تُفهم دوماً. الهوية هنا ليست خياراً، بل فرض ديني وسياسي يربط الولاء للزعيم أو للحزب أو للعائلة، أو كلها معاً، بالولاء للوجود.

 

تهبط أكثر، نحو الكورة، فتنكسر الرتابة الصخرية ويبدأ المشهد يتلوّن بالزيتون، بالأرثوذكسية الهادئة، بالتاريخ الذي لا يعلو صوته. هنا الهوية تأخذ شكلاً أوسع، أكثر تمدناً، أقرب إلى الدولة وأبعد عن الطائفة. هنا تجد مفردات الجامعة، النقابة، الدولة، والعلمنة. الكوراني لا يحب المبالغات. ينظر بريبة إلى سردية «الدفاع عن الوجود المسيحي»، وكأنّها اختراع ماروني لحصار الداخل، لا لمواجهة الخارج. بين حجارة الأديرة وحقول الزيتون، تنمو هوية تخاف الذوبان بمشروع الطائفة، وتفضّل أن تبقى في الظل على أن تتورط في خطاب يختصرها.

في البترون، تبدأ هوية أخرى. هنا البحر يُقبِّل الجبل، والليمون يكاد يختلط بملح الموج، وحتى الجدران تحتفظ بآثار عشق قديم بين السياسة والتاريخ. البترون مارونية أخرى، فيها صراع صامت بين هوية مَدنيّة تنمو تحت الجلد وأخرى محافِظة موروثة من دير وجمعية كشفية، وحزب عتيق. الناس هنا بترونيون أولاً، ثم لبنانيون، ثم موارنة. مدينة تحتفل بهويتها كمدينة، لا كطائفة، وتُجسّد في تفاصيلها المزدحمة بالإنتماءات، ما يشبه المختبر الحيّ للهوية المسيحية في لبنان. تتجاور البيوت القواتية مع العونية، فيما الشرفات التي تراقب البحر لا تثق كثيراً به ولا ببعضها البعض. القلوب التي تنبض لجبران باسيل لا تفهم أولئك الذين يرون في سمير جعجع رمزاً للخلاص، والعكس صحيح. في البترون، تتجلّى الأزمة المسيحية بأبهى صورها: نزاع على التمثيل لا على القضية، صراع على المنبر لا على المصير.

 

أما في جبيل، فتبدأ النعومة في الخطاب. جبيل لا تصرخ، بل تهمس. تنتمي أكثر إلى التاريخ التجاري منها إلى الملحمة الدينية أو الحزبية. الهوية هنا مبنية على التوازن، لا على التخندق. مسيحيّو جبيل يشبهون شوارع مدينتهم القديمة: مرصوفة بالحجارة، لكنها منفتحة على العالم. عندهم حسّ عملي: كيف نحمي وجودنا من دون أن نخسر شراكتنا؟ كيف نكون أقوياء بلا أن نكون متطرفين؟ هنا لا تُسمع شعارات «نحن الصخرة» أو «نحن قديسو هذا الشرق وشياطينه» كثيراً، بل ترى مشاريع صغيرة، ومبادرات ثقافية، لكأنّ المسيحي هنا يفضل أن يبني الهوية عبر العمل، لا عبر الحنين.

ثم تقترب شيئاً فشيئاً من كسروان «العاصية»، لكن زحمة طبرجا تقف بالمرصاد لكل قادم من الشمال أو الجنوب أو الجبل أو حتى الدنيا. ليست زحمة السير فقط، بل زحمة التاريخ والسياسة والهويات المتداخلة. على مدخل الكازينو، تزدحم السيارات القادمة من الشمال، من بشري، من زغرتا، من الكورة، من البترون، من جبيل… وكلّ منها يحمل خوفه الخاص. في زحمة كسروان وطريقها اليتيم الضيّق والبشِع، يتجلى اللاوعي الجماعي للمسيحي اللبناني: خوف من الآخر، من الداخل، من الزمن، من الذوبان، من التغيير، من السلم ومن الحرب معاً.

 

في هذه البقعة بالذات، تشعر أنّ الجماعة المسيحية ليست جماعة، بل جماعات. بشري المقاوِمة، الكورة التنويرية، البترون المزدوجة، جبيل العملية، المتن الحزبي، جزين الراكدة، زحلة المتميّزة، بيروت الضائعة… كل واحدة تشبه نفسها أكثر مما تشبه أختها. المسيحيون ليسوا طائفة واحدة، بل طوائف داخل الطائفة، يوحدهم فقط خوف مشترك: من الإختفاء، من الإنكسار، من المجهول.

لكن الخوف، مهما كان نبيلاً أو مُبرراً، لا يَصنع مشروعاً. لا يكفي أن نخاف معاً لكي نعيش معاً. ما نراه على طريق طبرجا هو مرآة مكشوفة لهوية مسيحية تتآكل من الداخل، لأنّها ترفض أن ترى ذاتها بوضوح.

 

في حضرة الأرز الشامخ والزيتون الصلب والليمون المتدلي على السهول الضيقة قرب الشاطئ، وفي زحمة طبرجا حيث تتصادم السيارات والهويات، يولد السؤال الكبير: هل يمكن لهوية مبنية على الخوف أن تستمر؟ أم أنّ المسيحي في لبنان يحتاج أن يخلع عباءة الماضي، ويعيد صياغة ذاته، لا كقلق وجودي دائم، بل كشريك فعّال في وطن يكون فيه متصدراً بين متساوين؟

 من القرنة السوداء حتى مدخل الكازينو، الهوية المسيحية ليست ثابتة، بل نهر مضطرب، يشق طريقه بين جبال الطائفة الوعرة وضمانة الدولة الهشة، بين عناد الذاكرة والتوق للمستقبل. فهل نملك الشجاعة أن نعيد تكوينها؟ أم نتركها تتبخر، كما يتبخر الضباب عن أغصان الأرز كلما طلعت عليها شمس الصباح؟