أحمد قبلان... رجل الإنعزال والتهلكة

أحمد قبلان... رجل الإنعزال والتهلكة

  • ٢١ آب ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

إنّه لأمر مأساوي أن يُختصر تاريخ النجف، وتراث جبل عامل، وفكر الإمام الصدر، وصوت الشيعة الأحرار، في خطاب أحمد قبلان.

منذ أن قرأ اللبنانيون بيان الشيخ أحمد قبلان الأخير، بدا واضحاً أنّ الرجل لم يعُد يتحدث بلغة رجال الدين، بل بلغة الميليشيا. لم يترك في بيانه كلمة إلا وملأها بالتهديد والتحريض والتخوين، كأنّه يتعمّد أن يحرق ما تبقى من جسور بين الشيعة وبقية اللبنانيين. من يسمعه يظن أنّه المتحدث الرسمي بإسم «الثنائي الشيعي»، لا مفتياً جعفرياً يُفترض به أن يكون صوت الإعتدال والتهدئة.

 لكن الأخطر من ذلك أنّ قبلان، وهو يهاجم البطريرك بشارة الراعي، إّنما يوجّه طعنته أولاً إلى الطائفة الشيعية نفسها. لأنّه حين يصف سلاح حزب الله بأنّه «سلاح الله وسلاح الأنبياء»، لا يدافع عن الشيعة، بل يحوّلهم إلى رهائن في مشروع عسكري لا علاقة له بمصالحهم الفعلية. هل هكذا تُصان كرامة الطائفة؟ هل تُصان ببيانات تُختصر في بندقية، فيما شبابها يهاجرون وفقراؤها يزدادون فقراً ومنازلهم تترنح تحت ثقل الحرب وما بعدها؟

 الشيعة في لبنان يعرفون جيداً من هو الإمام محمد مهدي شمس الدين والإمام موسى الصدر. الرجل الذي اعتصم ضدّ الحرب الأهلية، وأعلن أنّ «العيش المشترك قدس الأقداس»، وحاول بناء مشروع دولة لا طائفة مسلحة. اليوم، يأتي أحمد قبلان ليقلب الصورة رأساً على عقب: بدل أن يكون الشيعي رمزاً للمشاركة الوطنية، يصوره قبلان كجندي أبدي في خدمة بندقية حزب. أي جريمة أكبر من أن يُختزل تاريخ الطائفة، بكل علمائها ومفكريها ومثقفيها، في صورة مقاتل على الجبهة؟ لا بل الأنكى، أنّه يربطها بصورة مقاتل فاشل لم يُحسن إدارة حربه الأخيرة، وخسرها دون شك.

 الإمام الصدر قال يوماً: «السلاح في يد غير الدولة سلاح فتنة». قبلان يقول العكس تماماً: «سلاح الحزب هو سلاح الله». هذا ليس فقط تناقضاً مع روح الإمام، بل هو إهانة لذكراه. وكأنّ تغييب الصدر لم يكن كافياً، حتى يأتي من يحاول أن يرثه فيغتال فكره مرة ثانية.

المفارقة أنّ البطريرك الراعي، الذي يُهاجمه قبلان بشراسة، لم يقُل سوى بديهيات: إنّ الدولة هي المرجع، وإنّ الجيش وحده يحمي جميع اللبنانيين دون تمييز، وإنّ حياد لبنان ضرورة في ظلّ الإنهيار والصراعات الإقليمية. هذه المواقف ليست مؤامرة ولا خيانة، بل هي مطالب أي مواطن طبيعي يريد أن يعيش في بلد طبيعي.

 لكن يبدو أنّ كلمة «دولة» باتت محرّمة في قاموس قبلان ومن يشبهه. أي حديث عن حصر السلاح بيد الدولة يعتبره تهديداً، وأي مطالبة بالسيادة يصفها بالخيانة. إذا كان الأمر كذلك، فما الحاجة إلى مؤسسات ودستور وانتخابات؟ ولماذا وقّع «حزب الله» بنفسه على وقف إطلاق النار مع إسرائيل والذي ينص على تسليم السلاح؟

 المشكلة ليست في أنّ قبلان يهاجم البطريرك، فبكركي أكبر من أن يهزها بيان. بكركي لم تهزها سلطنة عثمانية ولا أنظمة قمعية طوال عقود وعقود. المشكلة أنّه يضع الشيعة في مواجهة مع كل الطوائف الأخرى، وكأنّهم وحدهم خارج الدولة وفوقها. بهذا الخطاب، يعزلهم عن شركائهم في الوطن، ويعزّز الإنطباع الخطير بأنّ الطائفة مجرد ذراع عسكرية لمشروع إيراني.

 الحقيقة أنّ ما يضعف الشيعة ليس إسرائيل ولا الآخرين، بل هذا الخطاب الأعمى الذي يحرمهم من الثقة الوطنية الجامعة. كيف يمكن للشيعي أن يندمج في الدولة، إذا كان مفتيه يقول علناً إنّ قرار السلم والحرب ليس شأناً حكومياً بل شأن طائفي؟ وكيف يمكن لبقية اللبنانيين أن يروا في الشيعة شركاء، إذا كان أحد مراجعهم الرسمية يقول إنّ «السلاح هو ضمانة الطائفة» لا الدولة؟

 أحمد قبلان لم يُسئ إلى البطريرك الراعي، بل عزّز مكانته. فالراعي الذي يدعو إلى الدولة يبدو اليوم الصوت الوطني العاقل، فيما المفتي يغرق في خطاب الميليشيا والإنعزال. بكركي تبقى ثابتة في دورها، أما الطائفة الشيعية فهي التي تدفع الثمن. تُعزل أكثر فأكثر، وتُقدّم للآخرين على أنّها طائفة البندقية وفوضى وحروب لا طائفة الثقافة والعيش المشترك.

 إنّه لأمر مأساوي أن يُختصر تاريخ النجف، وتراث جبل عامل، وفكر الإمام الصدر، وصوت الشيعة الأحرار، في خطاب أحمد قبلان. الرجل الذي يظن أنّه يحمي طائفته، يطيح بكل ما تبقى لها من رصيد. بدل أن يفتح أبواب الدولة أمامها، يقفلها بإحكام ويضعها في مواجهة الجميع.

 من يريد حماية الشيعة لا يربطهم ببندقية، بل يربطهم بدولة. ومن يريد الدفاع عنهم لا يضعهم في عزلة قاتلة، بل يدمجهم في شراكة وطنية حقيقية. أحمد قبلان فعل العكس تماماً: سلّم الطائفة إلى مشروع خارجي، وحرمها من حلفائها في الداخل، وأسقط عنها صورة الشريك الوطني.

 خطابه ليس خطيئة عابرة، بل جريمة سياسية وأخلاقية. جريمة بحق الشيعة أولاً، قبل أن تكون إساءة للبطريرك الراعي. وإذا كان الإمام موسى الصدر حياً، لكان أول من رفض هذا الخطاب، وأول من قال له: أنت لا تحمي الشيعة، أنت تخونهم.

 إذا استمر أحمد قبلان في هذا المسار، فإنّ الطائفة الشيعية ستجد نفسها في عزلة قاتلة، لا حماية فيها ولا كرامة. السلاح الذي يقدّسه قبلان اليوم، سيصبح، مع الوقت، عبئاً يجرّ على الشيعة المزيد من الحصار والعزلة والعقوبات. والخطاب الذي يتغنى به كـ«سلاح الله»، سيُترجم عملياً كإلغاء لدور الشيعة في الدولة، وتحويلهم إلى مجرد «جماعة مسلحة» في نظر الداخل والخارج.

 التاريخ لا يرحم. والطوائف التي رهنت نفسها للسلاح سقطت في النهاية تحت رماده. من الفينيقيين الذين ابتلعهم الصراع البحري، إلى الدروز الذي دفعوا ثمن حرب الجبل منذ قرنين، إلى الموارنة الذين دفعوا ثمن الحرب الأهلية... كل تجربة في لبنان أثبتت أنّ من يختار طريق الميليشيا يخسر الدولة ويخسر نفسه معها في نهاية المطاف. واليوم، يبدو أنّ أحمد قبلان يريد أن يقود الشيعة إلى المصير ذاته، ولكن بثمن أفدح، فيصبحون غرباء عن لبنان وغرباء عن جماعاته الأخرى.

 التحذير واضح: البطريرك الراعي حين ينادي بالدولة إنّما يقدّم للشيعة طوق نجاة. وأحمد قبلان حين يهاجم هذا النداء، إنّما يقطع عن طائفته آخر خيط يربطها بالوطن. المستقبل لن يرحم، والتاريخ لن يغفر، والشيعة سيدركون بعد فوات الأوان أنّ أسوأ ما أصابهم لم يكن عدواً خارجياً، بل صوتاً داخلياً لبس العمامة ورفع راية السلاح بإسمهم... وأودى بهم إلى التهلكة.